التحدي الأعظم

جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي، وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل، سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته.. إلخ. وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر، بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)"، ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار، والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غالبا على اكتشافات علماء غير مسلمين!

لكننا لن نتطرق الآن لهذا النوع من المظاهر الإعجازية، فقد تحدثنا عنها في موضوع آخر في هذا الموقع، وإنما سنتناول تحديا إعجازيا عظيما آخر، وهو الوارد في هاتين الآيتين من سورة البقرة:

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

بين افتراضين

يدور المنكرون للوحي والنبوة بشكل عام بين افتراضين لا ثالث لهما: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم كذاب يدعي النبوة، فهو يعلم أنه ليس بنبي ولكنه يخادع الناس، وإما أنه يعتقد في قرارة نفسه بأنه نبي، فهو يدعو الناس بصدق لكنه يتوهم النبوة.

ورغم وجود دعاوى واتهامات متعددة يلقيها الكفار قديما وحديثا لنفي صحة الرسالة كاتهامه بالسحر والجنون وتأليف الشعر.. الخ، لكنها كلها تصب في هذين الافتراضين. فإذا انتفى هذان الافتراضان فإن التهمة تسقط بطبيعة الحال.

ومن الطريف أن المتأمل في السيرة سيجد أحداثا تنفي كلا الافتراضين معا. وعلى سبيل المثال لا الحصر موقفه صلى الله عليه وسلم من حادثة الكسوف وكذلك نزول سورة المسد.

ومهما بلغت ثقة المخادع في نفسه وفي ذكائه فإنه لن يثق في أن تخلو الأجيال البشرية في المستقبل من أشخاص قد يفوقونه في الذكاء والقدرة. فكيف ضمن النبي صلى الله عليه وسلم- لو كان مخادعا- أنه لن يأتي من يفوقه في القدرة على الإتيان بسورة مثل سور القرآن؟ خصوصا أن هذا التحدي مفتوح لا يقيده زمان ولا مكان! بل إن المخادع كلما ازداد ذكاءً ازداد حيطة وحرصا على أن لا يضع مصيره رهن المستقبل المجهول.

أما الملحد الذي يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان واهما بالنبوة فصدر عنه هذا التحدي، فالزمن يرد عليه! لماذا ظل هذا التحدي من شخص واهم قائما كل هذه القرون، مع كثرة الأعداء الذين يسعون لإسقاطه؟

صراحة التحدي

ما معنى أن ينكر الملحد الإعجاز القرآني؟ المعنى بكل بساطة هو أن القرآن نص بشري يمكن لأي شخص أن يأتي بمثله. هذا هو مقتضى الإنكار. لأنه إذا كان معجزا فلن يستطيع أحد الإتيان بمثله، وبالتالي لو أتى أحد بمثله لم يكن معجزا.. البناء المنطقي لهذا التحدي بسيط للغاية ولا يحتاج إلى عبقرية أو مستوى عال على مقياس الذكاء!

القرآن بات متواترا

قد يحتج الملحد بأن عدم الإتيان بسورة من مثله ليس مبنيا على استحالة ذلك وإنما هو مبني على أن القرآن بات معروفا ومتواترا، ولهذا يصعب الإتيان بنص متواتر بين المسلمين مثله! لكنه ينسى أن سورة البقرة التي حوت هذه الآية نزلت أصلا في بداية العهد المدني، وقبل انتشار الإسلام، أي أن الكثير من العرب الأقحاح كانوا حينها كفارا لا يؤمنون به، ومثلهم يهود المدينة. بل إن الكفار من أعداء الإسلام كانوا أضعاف عدد المسلمين، وكان المسلمون أقلية، فلماذا لم يستجب الكفار الذين لم تكن تنقصهم البلاغة والبيان لهذا التحدي ليأتوا بسورة واحدة فقط في مجتمعهم يتداولونها ويتواترونها؟ نفس المجتمع ونفس الجنس ونفس اللغة.. فالشروط التي كانت متحققة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أيضا متحققة لهم..

التحدي وجودي

هذا التحدي ليس مجرد تحد عابر.. بل إنه تحد وجودي، أي أن صحة النبوة والدين كلها قائمة على الإتيان بسورة من مثله! فلو أتى أي مخلوق بسورة واحدة، كسورة الكوثر مثلا، تتكون من ثلاث آيات لا يزيد مجموع حروفها عن 42 حرفا، فإن الإسلام سينهار تماما.. وهنا تتجلى عظمة هذا التحدي، فلا شك أنه كلما كان شرط التحدي سهلا وكانت نتيجته في الوقت نفسه مصيرية فإن قوة التحدي وعظمته تكون أبلغ. ليس هذا فقط، وإنما هو تحد مفتوح لكل مخلوق على وجه الأرض وقائم إلى الأبد.

الجزء وليس الكل

عندما كان المشركون واليهود في المدينة يهزؤون بالنبوة وينكرون أن القرآن وحي من الله تعالى، جاءهم هذا التحدي ليس للمطالبة بقرآن مثله، وإنما للإتيان بسورة واحدة، إمعانا في الإعجاز والتحدي، وكما ذكرنا فإن سورة الكوثر تتكون من 42 حرفا، بينما عدد أحرف القرآن هو 323671، أي أن القرآن أكثر من سبعة آلاف ضعف مما عجزوا عن الإتيان به. ولا شك أن هذه مبالغة في التحدي.

اطلبوا العون

لم يكتف الله تعالى بتحدي الكفار واليهود أن يأتوا بسورة من مثله، فقد يعجزون هم ثم يدّعون بأن هناك من يستطيع ذلك غيرهم.. ولهذا طلب منهم القرآن أن يدعوا شركاؤهم ليعينوهم، بل أمعن بالتحدي في آية أخرى قائلا "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" [الإسراء: 88]. ولا شك أنك عندما تتحدى شخصا للقيام بعمل ما، ثم تدعوه للاستعانة بكل أحد، فإن هذا التحدي يكون مضاعفا، والاستعانة بحد ذاتها هي تحد آخر.

إنهم بسطاء

عندما يقول الملحد إن القرآن ليس فيه ما يستحق التحدي، ولكن الناس بسطاء فصدقوا بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبأن القرآن وحي من الله، فإننا نجيبه بأن أمثال هؤلاء "الناس البسطاء" موجودون في كل زمان ومكان، أي أن الظروف التي يقوم عليها التحدي هي ظروف واحدة، والتحدي لازال قائما، فشمّر عن ساعديك واستفد من نسبة الذكاء (IQ) لديك، وقم بدورك في إقناع "الناس البسطاء" بسورة من مثله حتى تتمكن من القضاء على الإسلام.. لا تكن منافقا يدعي أن القرآن ليس معجزا وهو يعيش هذا الإعجاز ليلا ونهارا!

التحدي مشهور

إن هذا التحدي ليس تحديا طبيعيا! هذا التحدي مشهور جدا، يشهده المليارات من البشر.. ولك أن تتخيل هذه المليارات وهم ينتظرون من يخرج لهم ويدق على صدره ويأتي بسورة من مثله! أليس في هذا العرض غاية الإغراء؟ ألا يستحق المحاولة أمام هذه المليارات من البشر؟

حركة مكشوفة

لا شك أن هناك محاولات قليلة جدا وقعت عبر التاريخ، وهي محاولات مضحكة يتندر بها الناس، بل إنها أصبحت من دلائل الكذب كما في قرآن مسيلمة "يَا ضِفْدَعُ بِنْتُ ضِفْدَعِينَ، نِقِّي مَا تَنِقِّينَ، نِصْفُكِ فِي المَاءِ وَنِصْفُكِ فِي الطين"، حتى صار يعرف باسم "مسيلمة الكذاب"، فتأمل الفرق بين القرآن الذي هو من دلائل النبوة وبين كلام مسيلمة الذي بات من علامات الكذب.

لقد كان مسيلمة الكذاب يحاول، لكنه على كذبه أكثر صدقا من بعض المحاولات التي تقوم على النصب والتدليس، حيث قام بعض المنصرين بما يسمى "التّناصّ" (Intertextuality)، وذلك باستخدام الألفاظ القرآنية نفسها ليركب منها جملا جديدة، فتبدو وكأنها آيات، لكن التلاعب واضح فيها، ويمكن لأي مسلم أن يكشفها. وهذا بالطبع تحريف للآيات وسرقة لألفاظها وليس إتيانا بمثلها، بل يدل هذا السلوك على العجز عن مقابلة التحدي بشرف، فعندما تنص الآية على "سورة من مثله" فإن المثلية هنا تقتضي الإتيان بشيء جديد، فسبحان الله الذي جعل مجرد المحاولة دليلا على العجز!

الشعور بالعجز

مهما حاول الملحد تبرير عدم قدرته على الاستجابة لهذا التحدي، واختلاق الأعذار، فهو يظل واهنا يغمره الشعور بالعجز، وتظل هذه الآية قائمة شامخة وباقية إلى الأبد، والتحدي قائم لا يخفى على أحد.

التحدي لا يكفي!

هاتان الآيتان لا تكتفيان بالتحدي، وإنما تختمان التحدي بالتهديد.. أي قوة كاسحة! أنت لست فقط عاجز عن مقابلة هذا التحدي، بل إنك ستواجه العقاب الشديد على كذبك وتدليسك. أنت تدعي أن القرآن بشري، ثم تعجز بقدراتك البشرية عن الإتيان بمثله، ثم تستعين بمن شئت وتعجز أيضا، ومع ذلك تظل مكابرا كاذبا على دعواك بعد أن انكشفت أمام نفسك؟ ألا تستحق العقاب على كذبك ومكابرتك؟ بلى، ولكنه عقاب شديد، وهو أن تكون وقودا لنار جهنم! أليس هذا العقاب دافع مضاعف لكي تستجيب للتحدي؟

الإخبار بالنتيجة

من النادر أن يأتي التحدي مقرونا مع نتيجته، لكن هذا التحدي القرآني يخبرك بالنتيجة مقدما! الإعجاز في العادة هو أن تتحدى القيام بعمل ما، ثم تنتظر النتيجة لتثبت عجز خصومك، لكن القرآن لا يكتفي بذلك، وإنما يخبرك أيضا أنك ستعجز: "فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا"، فيكشف كبرك وغطرستك أمام نفسك لتدرك عجزك.

أهل العربية

هذا التحدي لم يوجه إلى العرب خاصة، لكنه بالتأكيد معروض عليهم قبل غيرهم، لأنه بلغتهم.

لكن هل العرب فقط هم أهل البلاغة والبيان؟

لقد كانت مجالات المفاخرة عند الأقوام الأخرى كالإغريق والرومان والفرس تتمثل في جوانب قد تكون اللغة مجرد أداة فيها كالفلسفة والميثولوجيا كما عند الإغريق، أو إبداعات لا تعتبر اللغة عنصرا أساسيا فيها كالبناء والتشييد كما عند الفراعنة والرومان والنحت والرسم كما عند الرومان أيضا والعصور الأوروبية الوسطى.

بينما كان العرب هم أهل البلاغة والبيان، اللغة هي صنعتهم الأولى، وإن كان ضعف الانتماء والهزيمة النفسية تزهد بعض المعاصرين بلغتهم وهويتهم، ولكن عند التجرد نجد أن اللغة العربية تفوق اللغات الأخرى، فعدد مفردات اللغة العربية يصل إلى 12 مليون مفردة، أي ما يعادل 25 ضعفا من عدد مفردات اللغة الإنجليزية مثلا. فعلى أي شيء يدل ذلك؟ الجواب ببساطة هو أن ثراء اللغة بالمفردات يدل على قوتها التعبيرية وقوة تأثيرها على المتحدثين بها. بل إن العرب يتفاخرون ببلاغتهم وبيانهم. والجذر اللغوي "عرب" الذي اشتق منه اسم اللغة يدل على الإفصاح والتعبير. وكان يمكن لبيت من الشعر أن يرفع القوم عاليا ويمكن لبيت آخر يخر بهم، ومن أبرز القصص المعروفة قصة بني أنف الناقة الذين علت مكانتهم بين القبائل بعد أن قال بهم الحطيئة قصيدة من أبياتها "قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم :: ومن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا"، والأمثلة كثيرة ومتعددة في أغراض الشعر وخصوصا الهجاء والمديح والرثاء.

كما أن المعلقات العشر وتعلق الناس بها في عصر ظهور الإسلام من أكبر الدلائل على جودة اللغة ومهارة العرب في التعبير والبيان والفصاحة.

فعندما يكون القرآن باللغة العربية، وينزل في العصر الذي بلغت فيه اللغة أوج قوتها، ثم يأتي هذا التحدي صريحا قويا مدويا لا مجال فيه للمراوغة، فإنه لا يكون أمام أعداءه إلا الاستسلام أو المكابرة المكشوفة.

الموناليزا؟

الموناليزا لم يستطع أحد أن يقلدها، فهل هي وحي؟ ومع التحفظ على أن أحدا لم يقلدها، أو يأت بمثلها، لكن هذه العبارة فيها تدليس على البسطاء. ومع الفارق لكن لا بأس من التبسط لكشف هذا التدليس.

  • دافنشي لم يتحدّ أحدا أن يرسم مثل لوحته، والآية تتحدى. بل إنه لم يكن ليجرؤ على التحدي، فاللوحة لم تكتسب قيمتها الحالية في حينها، وإنما اكتسبتها مع مرور الزمن وتداول الحديث عنها.

  • اكتسبت الموناليزا تفردها عبر خمسة قرون، وصارت تحمل قيمة تاريخية، فقيمتها بعد رسمها مباشرة كانت ضئيلة جدا بالمقارنة مع قيمتها الحالية، بينما التحدي القرآني يحمل صفة ذاتية فيه، وجدت أثناء نزوله واستمرت 15 قرنا، والتحدي مفتوح إلى آخر الزمان.

  • مع أن هناك من قلّد الموناليزا تقليدا دقيقا للغاية، ولكن تقليدها لا يعني إسقاطها، بينما التحدي القرآني واضح جدا، وهو أن الإتيان بسورة من مثله يعني إسقاطه وانتهاء الدين.

  • الموناليزا لم يتهمها أحد من معاصري دافنشي بأنها مزورة أو ليست من عمله، بينما تكررت الدعاوى من الكفار بأن القرآن شعر أو سحر أو من أساطير الأولين..

فالخلاصة هي أن المقارنة بين الأعمال البشرية وبين التحدي القرآني ليست صحيحة. لا يوجد أحد من البشر يتحدى الآخرين بالإتيان بجزء من عمله على أن تكون النتيجة هي إسقاط قيمة عمله!


شارك هذه الصفحة مع الناس، فواللهِ لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ.