الشبهة حول الناسخ والمنسوخ

إيراد باطل

في البداية يجب أن نحرص على التفكير بوضوح، وأن يكون استدلالنا استدلالا دقيقا.
إذا أتى الاعتراض على الناسخ والمنسوخ من ملحد فإن لديه مشكلة منطقية واضحة جدا، إذْ لو رأى الملحد أن القرآن ليس كلام الله لأن فيه ناسخ ومنسوخ فهذا لا ينفي ولا يثبت شيئا في عقيدة الملحد، ولا يفيد إطلاقا في النقاش حول وجود الخالق، وهو الأمر الذي يدور عليه الإلحاد. فالملحد المستدل على عدم وجود الخالق بوجود الناسخ والمنسوخ إما أن لديه لوثة أو أنه يسعى للتلبيس على المسلمين فقط، لأن الاعتراض على الناسخ والمنسوخ يستلزم بالضرورة الإيمان بوجود خالق لا يصح في حقه النسخ، ولهذا فإنه حتى لو لم يتم الرد على هذه الشبهة فاحتجاج الملحد بها باطل.

النسخ ليس تراجعا عن خطأ تشريعي

ولكن سنفترض أن السؤال أتى من شخص يؤمن بوجود الخالق، ونقول: النسخ ليس مأخذا على المشرع، وإنما هو تشريع بحسب الواقع حال التشريع. فمثلا لو تم تحريم الزواج من الأخت منذ نزول آدم لكان آخر البشر هم أبناء آدم. فكان زواج الأخت جائزا ثم كان التحريم لما ارتفعت الضرورة.

وأحكام بني إسرائيل كان فيها تشديد لأنهم كانوا يتجاوزون التشريعات ويلتفون عليها، ولكن لما بعث الله عيسى عليه السلام خفف عنهم الأحكام كما ورد في القرآن على لسان المسيح "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، وهذا من رحمة الله.

ولا يعني النسخ أن الله أنزل حكما خاطئا ثم عدّله بحكم آخر، والدليل على ذلك هو أن القرآن يتحدث عن النسخ في أول سورة مدنية، وهي سورة البقرة، فيقول: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".

وأشهر الآيات المنسوخة نزلت بعد نزول هذه الآية، وبينها وبين سورة البقرة أربع سور من حيث ترتيب زمن النزول، وهي من سورة النساء: "وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً"، حيث أتت الآية الناسخة بعدها بتسع سور في سورة النور: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ". فإذا كان الله يخبرنا أن الآيات يمكن نسخها ثم يأتي بعد ذلك بآيات وينسخها فكيف يمكن اعتبار النسخ تراجع عن خطأ؟

التدرج في الأحكام

ويأتي النسخ أحيانا بهدف التدرج في التحريم، ومثال ذلك تحريم الخمر، فكان التدرج مناسبا لطبيعة الإدمان التي لا تقبل التحريم المفاجئ. ولدينا تجربة شهيرة في التحريم الفاشل للخمور، فقد حرمت الخمور في أمريكا عام 1920 ولم يستمر تحريمها سوى 13 عاما ثم عاد تداولها بمستوى أشد بكثير.

لاحظ التدرج في التحريم من خلال هذه الآيات:

"ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا" [النحل]

"يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" [ البقرة]

"يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل" [النساء]

"يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" [المائدة]

وقد لا يعد البعض ذلك نسخا لأنه لا يوجد تعارض بين الآيات.

وهذا مثال آخر على النسخ الذي نزل من أجل التخفيف في الحكم، فقد قال الله تعالى: "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا"، وهذا إلزام في حالة القتال حتى لو كانت النسبة بين المسلمين والكفار 1 إلى 10، فلما انصاع المسلمون لأمر الله بعكس اليهود الذين تلكئوا، خفف الله عنهم ونسخ هذه الآية بقوله تعالى: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين"، وبهذا أصبح إلزام القتال بنسبة 1 إلى 2 فقط بين المسلمين والكفار.

ولاحظ الحكمة التربوية هنا، بعكس تحريم الخمر، فقد فرض الله الأمر الصعب في البداية ثم جاء التخفيف لترتاح له النفوس.

والمأخذ الذي يأخذه المعترضون على مسألة النسخ من الملحدين والنصارى- كما أسلفنا- هو ادعاؤهم أن الله ينزل حكما فيكتشف خطأه ثم ينسخه، وهذا الادعاء لا يستقيم مع نصوص الآيات، فالآية تقول "الآن خفف الله عنكم"، أي أن الحكم الأول كان مقصودا أصلا لكي يتم التخفيف فيما بعد.

وهذا الادعاء لا يقوم أيضا مع كافة الأمثلة إذا دققنا في النصوص. خذ مثلا الآية المنسوخة التي أوردناها في بداية الموضوع عن عقوبة الزانية، فقد ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: "أو يجعل الله لهن سبيلا"، وهذا تلميح إلى الحكم التالي الذي سوف ينسخ هذا الحكم ويكون فيه تخفيف عليهن.

فمسألة النسخ ليست خطأ في التشريع، وإنما هي مسألة مثبتة تحدث عنها القرآن بلغة صريحة، ويتضح للمتأمل أن لكل منها أسبابا تشريعية كالتخفيف أو التدرج تطلبتها ضرورة المرحلة أو الظروف الراهنة عند نزول الحكم، ولهذا فإننا نجد أن النسخ لم يقع في آيات الأخبار أبدا.


شارك هذه الصفحة مع الناس، فواللهِ لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ.