شبهة حجاب الإماء

 كتبه: حسام الدين حامد

مباعث الاشتباه

الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألّا إله إلا الله وحده، وأنّ محمدًا رسوله وعبده، وبعدُ..

فإنّ موضوع حجاب الأمة رغم اندراس أسباب نقاشه، يُعدّ من المواطن التي تُشكِل على كثيرٍ من الناظرين، فمتصبّرٌ يرجو أن يقف على الحكمة والتعليل، ومتعجّل يبادر بالإعراض والتشكيك، وهو من المواطن التي تشارك طوائف مختلفةٌ في اتخاذها موضعًا لشبهةٍ تتخطّف القلوب لغاياتٍ شتّى، فيتخذها العلمانيون والليبراليون والجمعيات النسوية الحداثية كسبيلٍ للطعن في الحجاب، ويتخذها الملحدون والمشككون كسبيلٍ للطعن في حكمة التشريع، ويتخذها العقلانيون كسبيلٍ للطعنِ في المنقول، من أجل ذلك عزمتُ على تفصيل القول في هذه المسألة، بالرغم من أنّها لا يندرج تحتها عملٌ في أيامنا هذه، والله أسأل أن يلهمني رشدي ويرزقني الإخلاص والقبول والسداد!

إنّ الأزمة في النظر في مسألة حجاب الأمة تنبع من عدة جهات:

الجهة الأولى: الخلط بين المقصد وتفاصيل الأحكام

إن الشريعة الإسلامية أتت بمقاصد عامة منها ستر الأبدان لحفظ الأعراض، والعقل يحكم بحسن هذا المقصد إجمالًا، أمّا التفاصيل فلا يمكن الوقوف عليها بالعقل وحده، وذلك كمثل حكم العقل بحسن الزواج لحفظ النسل والعرض، لكن تفاصيل أحكام الزواج ليس للعقل أن يقف على أحسن ما تكون به، فمثلًا: ما قول العقل في زواج الأقارب؟ وما حد الأقارب الذين لا يحسن الزواج بهم؟ وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في التحسين والتقبيح العقلي، أنّ العقل يعرف الحسن والقبح إجمالًا، لكن الوقوف على التفاصيل لا يكون إلا بالشرع.

وسبب الإشكال هو ما يلجأ إليه كثيرٌ من الدعاة من تضخيم قضية الحجاب(1)، فرغم أهمية القضية إلّا أنّ بعض الدعاة قد رفعها فوق قيمتها، حتى أوشك أن يُلحقها بقضايا العقيدة من حيث الأثر، فخطاب بعض المطويات والملصقات على الجدران لنساء المؤمنين قد يصل حدّ قولهم "البسي حجابك لتتحرر القدس!"، وهذه قصة تُذاع أن امرأةً منتقبةً قد ضاع ابنُها فنصحها الناس أن تكشف وجهها ليعرفها ابنها فقالت "يضيعُ ابني ولا يضيع حيائي!"(2)، وما شابه ذلك من القصص والتوجيهات التي تضع الحجاب والنقاب بكافة تفاصيله في مقام الأصول الكبار، ليس بصريح العبارة ولكن بالاهتمام وتضخيم الأثر.

أورث ذلك المسلمين عمومًا والمتابعين والمتأثرين بالخطاب الدعوي خصوصًا، أورثهم خلطًا لاشعوريًّا بين قيمة الستر والحشمة وتفاصيل الحجاب، فتجد أحدهم مثلًا ينفي وقوع الخلاف في تغطية المرأة لوجهها ويدّعي الإجماع على وجوبه، وتجد من ينفي أن تكون هناك امرأةٌ على خلق كاشفةً لشعرها، هذه الأحوال هي التي تجعل الواحد من أولئك المتأثرين يحسب أن أيّ تغيير في تفاصيل الحجاب لا يمكن أن توجد في الشرع، وأنّ أية إباحةٍ لكشف شيءٍ من جسد المرأة مهما كانت حال تلك المرأة، حتى لو كانت تلك الإباحة في شريعةٍ سابقة، يشعر هذا المتأثر أن التغيير هو نقضٌ للمبدأ وليس تغييرًا في التفاصيل!

وقبل هذا التضخيم وما أورثه من خلط، كان فقهاء المسلمين يتناولون مسألة حجاب الأمة بهدوءٍ واختصار، دون أن يعد أحدهم قوله أو ترجيحه من الدعوة لانحلال المؤمنات. كان فقهاء المسلمين يتكلمون عن جواز كشف الأمة لشعرها دون أن يستشعر أحدهم أنّه يدعو لنشر الفاحشة، معقولٌ جدًّا أن ترى امرأةً تكشف شعرها وهي في نفس الوقت محتشمةٌ ومحافظةٌ وعلى خلق، ترى ذلك في شوارع أوربا لا تنكره، وتراه في نساء النصارى في بلادنا فلا يكون كشف شعورهن في حد ذاته قرينةً على الانحلال، بل فيهن المحافظة والعفيفة بلا جدال. هناك فرقٌ بين الفاسدة ذات الخلق المنحل والمحافظة وإن كانت كاشفةً لشعرها، نعم.. تكون عاصيةً إن خالفت أمر الله، ولا تكون آثمةً إن كان الأمرُ لم يرد بالتغطية، لكن كشف الشعر في حد ذاته ليس دليلًا على زوال حسن الخلق والحشمة والستر وزوال كل جميل.

بكلماتٍ أو أسطرٍ قليلة يقرّر الفقيه القديم ويرجّح، ولا يلجأ لإبطال قولٍ من جهةٍ أخلاقيةٍ إلا إن شعر أن هذا القولَ يُنافي مبدأ الستر أصلًا، كقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على نسبة القول بأنّ عورة الأمة هي السوءتان فحسب للإمام أحمد بن حنبل، هنا قال رحمه الله: "وقد حكى جماعةٌ من أصحابنا رواية إن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهو غلطٌ قبيحٌ فاحشٌ على المذهب خصوصًا وعلى الشريعة عمومًا، فإنّ هذا لم يقله أحدٌ من أهل العلم، و كلام أحمد أبعد شيءٍ عن هذا القول، وإنما كان يفعل مثل هذا أهلُ الجاهلية، حتى نهى الله تعالى عن ذلك وأمر بأخذ الزينة عند المساجد، وسمّى فعلهم فاحشة"(3). وماعدا ذلك من التفاصيل لا يبطلها الفقهاء بالتشنيع الأخلاقي عليها كما سيأتي بيانه. وهكذا لو أنّ النفوس تخلّصت من إسار مبالغات الخطاب الحالي واعتقال الوهم المبثوث، لأمكن لهذه الأنفس ألّا ترى في تغيير تفاصيل الحجاب بما لا يضرُّ بالستر شبهةً أو أزمةً كما سيأتي.

الجهة الثانية: التزام المساواة

وهذه الجهة هي مبعث الشبهة من قِبل الليبراليين والعلمانيين، فهم لا يمانعون أن تكشف الأمة أو الحرة شعرها وكثيرًا غير ذلك، ويذرون لها تمام الحرية في ذلك الباب، وإنما مبعث شبهتهم عدم المساواة بين الحرة والأمة، يتخذون عدم المساواة سُلّمًا للطعن في الحكم كله، والصواب أنّ المساواة ليست شرطًا في حسن التشريع، بل الطعن يأتي من التفريق بين المتماثلين، أمّا إن وقع الاختلاف فالمنطقي أن يكون هناك تفريق، وأنت ترى أنّ هناك فرقًا بين عورة المرأة وعورة الرجل، ومع ذلك لا يثير عدم المساواة بين الرجل والمرأة كثيرًا من الاعتراض، ذلك أنّ الاختلاف بين الرجل والمرأة اختلافٌ ظاهر، وبالتالي فالتفرقة بينهما معقولةٌ مقبولة. وعلى ذلك فلو أنّ المعترض وعى الاختلاف بين الأمة والحرة لعرف سر التفرقة، ولقبل الفرق بينهما كما يقبل الفرق بين الرجل والمرأة.

وليست مسألة الحجاب هي المسألة الوحيدة التي وقع التفريق فيها بين الأمة والحرة، بل عدّ بعض أهل العلم المسائل التي وقع فيها الفرق بين الحر والعبد فزادت على الخمسين مسألة(4)، ومن تلك المسائل مثلًا تخفيف حد الزنا على الإماء بقوله تعالى "فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحصَنَاتِ مِنَ العذاب" (النساء: 25)، فليس عليهن رجم، وعلى من زنت من الإماء نصف حد الجلد لتكون على النصف من الحرة، فهناك من يرفض هذه التفرقة نفسها حتى ولو كانت تخفيفًا على الإماء، وهذا اعتراض من لا يفقه شيئًا من طرائق الشرائع والقوانين، لأن التفرقة في حد ذاتها ليست نقصًا في التشريع، بل التسوية بين المختلفين والتفرقة بين المتماثلين هي محل النقص والانتقاد، وما من تشريعٍ إلا ويفرّق بين الجرائم في العقوبة، وبين الرعايا في الواجبات والحقوق وفقًا لما يناسب الأحوال. ولذلك فوجود الفرق بين الأمة والحرة بما يفسّر سبب التفرقة في الحجاب ينفي الشبهة من هذه الجهة، لأن مجرد التسوية لا فضيلة فيها ولا نقص دون اعتبارٍ بحال المكلفين.

الجهة الثالثة: عدم تصوّر واقع الإماء في المجتمع

ذلك أنّ عصر الإماء والعبيد قد انقضى منذ زمان، وكلّ المتكلمين في المسألة ما عايش حياة الإماء والعبيد، وأغلبهم لم يقرأ شيئًا يصوّر له هذه الحياة ويقرّبها قبل أن ينتهض للاعتراض، وسوء التصور هذا يورث غلطًا في الفهم والاستقبال ولا شك، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومن ذلك قوله تعالى "وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ" (النساء: 25)، فيتصور من لا يدري أن في هذا انتقاصٌ من الأمة المؤمنة، مع أنّ الله عز وجل قال "وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ" (البقرة: 221)، ومع أنّ القضية أنّ المسلم لو تزوج أَمةً فسيكون ابنه عبدًا لسيد الأمة(5)، في حين أنه لو لم يتزوجها وأنجبت من صاحبها فسيكون ابنها حرًّا وتصير هي أمّ ولدٍ لا يُفرّق بينها وبين ولدها، وإن لم يُعتقها أبو ولدها فإنّها تصير حرةً بوفاته، ولو شُرع أن تكون حرةً بمجرد زواجها لعضلها سيدها ومنعها من الزواج.

يقول ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: "وقوله (من فتياتكم) للتقريب وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء والترفع عن نكاحهم وإنكاحهم، وكذلك وصف (المؤمنات) وإن كنا نراه للتقييد فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب... ومن تلك المعاني أنه تعالى أمر بنكاح الإماء عند العجز عن الحرائر، وكانوا في الجاهلية لا يرضون بنكاح الأمة وجعلها حليلة، ولكن يقضون منهن شهواتهم بالبغاء، فأراد الله إكرام الإماء المؤمنات جزاءً على إيمانهن، وإشعارًا بأنّ وحدة الإيمان قربت الأحرار من العبيد". وقال في بيان تقديم الحرة على الأمة في النكاح: "إذا استطعتم الصبر مع المشقة إلى أن يتيسر له نكاح الحرة فذلك خيرٌ لئلا يوقع أبناءه في ذل العبودية المكروهة للشارع لولا الضرورة، ولئلا يوقع نفسه في مذلة تصرف الناس في زوجه"، فانظر كيف يؤدي عدم العلم بالواقع إلى قلب الإحسان في الآية إلى شبهة وانتقاص!

يتصور أحدهم أن الأمة مثلها مثل الخادمة في أيامنا هذه، وأنّ اللاتي يضطرهن الحال للعمل في خدمة البيوت هنّ كمثل الإماء قديمًا، وفي عدد غير قليلٍ من الأسئلة التي تُوجه لجهات الإفتاء وأهل الفتوى تجد خلطًا بين الخادمات والإماء، وهذا التصور البئيس يلعب دورًا رئيسًا في إثارة الشبهة المتعلقة بحجاب الإماء، وسوف أضع تقريبًا لوضع الإماء ييسر للقارئ تصور حالهن والقدرة على تفهّم الأحكام المتعلقة بهن.

الجهة الرابعة: الانسياق لأثر الغيرة مطلقًا

وذلك أنّ جلّ من يتكلم في موضوع حجاب الأمة من المتدينين، يتصور تلك الأمة من نساء بيته، فيغار ويرفض خروجها إلا أن تكون مستورةً كالحرة، يريدها أن تغطي كل جسمها، فهو لا يريد أن تكشف الأمة شيئًا يزيد على ما تكشفه الحرة من جهة غيرته عليها. يقول ابن عثيمين رحمه الله في توصيف هذا الواقع: "وكثيرٌ من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ"(6)، وفي الحديث "إنَّ من الغَيْرة ما يحبُّ الله ومنها ما يكره الله؛ فالغَيْرة التي يحبُّها الله الغَيْرة في الريبة، والغَيْرة التي يكرهها الله الغَيْرة في غير ريبة" (رواه أبو داود والنسائي وحسنه ابن حجر والألباني).

والشرع الحنيف يُراعي هذه الغيرة في أحكامه، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد أن تُحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أنّه قال لرسول الله: احجب نساءك! فلم يفعل صلى الله عليه وسلم. وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلًا إلى ليل قبل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأةً طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفتك يا سودة! حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، فعاد الفاروق يريد أن يزيد الأمر عن الحجاب في الملبس، فتحجب النساء في البيوت، إذ خرجت سودة بنت زمعة- كما في الصحيح- ليلًا فرآها عمر فعرفها، فقال: إنّك والله يا سودة ما تخفين علينا! فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وهو في حجرة عائشة رضي الله عنها يتعشى وإن في يده لعرقا، فأنزل الله عليه فرفع عنه وهو يقول: "قد أذن الله لكنّ أن تخرجن لحوائجكن".

هكذا يخالف الشرعُ في الجانب الذي يؤدي إلى التضييق على النساء، ومن تلك المخالفة لظنون الغيرة وآثارها نهيه صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلًا يتخونهم أو يطلب عثراتهم (رواه مسلم)، ومن تلك المخالفة كذلك ما رواه مسلم أنّ سعد بن عبادة الأنصاري قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. قال ابن عبد البر رحمه الله معلقًا: "يريد- والله أعلم- أن الغيرة لا تبيح للغيور ما حرم عليه، وأنه يلزمه مع غيرته الانقياد لحكم الله ورسوله، وأن لا يتعدى حدوده، فالله ورسوله أغْيَر".(7)

وهكذا نرى أن الشريعة قد أتت بمراعاة المحمود من هذه الغيرة كما وافقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض مراده، وأتت أيضا برد المذموم منها وإلجامه بالأدلة المحكمة. ومن أفضل ما يفيد في مقامنا ما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنت أحدَكم امرأتُه إلى المسجد فلا يمنعها، فقال بلال: والله لنمنعهن! فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا سيئًا ما سبّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن؟ (متفق عليه)

فكون المرء يغار لا يمنحه الحق في أن يحكم على فعله بالصواب، بل قد تؤدي الغيرة إلى بغي على الناس، وتضييقٍ على النساء، واضطرابٍ في العلاقات الأسرية، وهذه الغيرة لا تصلح منطلقًا لتقويم الأحكام، وإنّما ندعو الله أن يذهب بكل غيرةٍ لا تنضبط بأحكام الشرع وتؤذي الخلق، كما قالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبها إنّ لها بنتًا وإنّها غيور، فقال: "أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة". (رواه مسلم)

وبعد بيان هذه المباعث الأربعة والتي تؤثر في النظر، فيحسب المرء أن هناك شبهة في الحكم، أرجو أن يتخلص القارئ من أية صورةٍ مغلوطةٍ عن الإماء بناها على تخيلاتٍ محضة، وأن يدع عنه التهويل الخطابي لقضية الحجاب ليتم وضعها بكل تفاصيلها في مصاف الأصول الكبار من جهة الأثر، وأن يدع عنه الغيرة المذمومة والانسياق لها، ويكتفي بما يستصحبه من حسن الحياء والحشمة والستر في الجملة، لننظر في الحكم ومناسبته للمكلّف دون توهمٍ أنّ المساواة مطلبٌ من مطالب التشريع ومعيارٌ من معايير الحكم بالصواب، وإنما الشأن في مناسبة الحكم لمقتضى الحال، وهذا الذي سنراه قد وقع في حكم حجاب الإماء إن شاء الله.

أقوال العلماء

اختلفت أقوال أهل العلم في عورة الأمة وحجابها، وقد يخلط بعضنا بين كلام الفقهاء عن عورة الخلوة والصلاة والنظر، وخصوصًا الأخيرين. والذي يعنينا في هذا المقال هو عورة النظر. أقول إن أقوال الفقهاء قد اختلفت على عدة أقوال، سأذكرها مع التعليق عليها بما يناسب المقام، وهو هنا دفع الشناعة الأخلاقية عن فقهاء المسلمين جيلًا بعد جيل، أمّا مسألة التفريق بين الأمة والحرة فسيأتي الرد عليها ببيان الفرق بين الأمة والحرة.

ومما لا يخفى أنّ المسلمين لا يعتقدون العصمة في قول أحدٍ من البشر إلا الأنبياء والرسل، ولذلك فما يورده أيّ معترض من فعلِ أو قولِ فلانٍ، يمكن ردّه بسهولة أنّه ليس بحجةٍ، وأنّ كلّ قائلٍ يُؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنّ هذا المقال يتجاوز هذه الطريقة في الرد، ليرفع عن علماء المسلمين نقيصة يريد المعترض أن يلحقها بهم، ليس من باب التنزل في الرد، ولكن لأنّه لا يصح التهجم على تخطئة جمهور علماء المسلمين، الذين يرجّحون ويرجعون للدليل من الكتاب والسنة، لا يجوز التهجم على تخطئتهم ورميهم بالموافقة على شيوع الفاحشة والعري في الذين آمنوا، هذا لو قلنا إنّ ترجيحهم كان خطأ، فإنّ تخطئة الترجيح من ناحية علمية، لا تعني القبول بتخطئتهم من ناحية أخلاقية.

وقد اختلف الفقهاء في حد عورة الأمة في باب النظر على عدة أقوال هي:

القول الأول

ما بين السرة والركبة (رواية في المذهب الحنبلي، وقولٌ عند الشافعية، وقول محمد بن مقاتل من الحنفية، وقول المالكية).

القول الثاني

ما بين السرة والركبة مع الظهر والبطن (المشهور عند الحنفية).

والذي يقرأ هذين القولين يتصور أنّ القائلين به يدعون لخروج الإماء إلى الطرقات كاشفاتٍ عن صدورهنّ أو أظهرهن، وهذا التصور يبطل من عدة وجوه:

  1. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم قالوا إنّ عورة الرجل ما بين السرة والركبة، ورغم ذلك لم يكن ديدنهم في أنفسهم ولا في الناس الدعوة لخروج الرجال ساترين لما بين السرة والركبة فحسب.

  2. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم هم من يقررون أن عورة المرأة أمام محارمها كأخيها هي ما بين السرة والركبة، ولم يفهم أحدٌ من ذلك ولم يحدث أنّهم دعوا لتطبيق ذلك فحسب، وإنما الكلام في القدر الواجب ستره، وهذا لا يمنع من استحباب ستر ماعدا ما بين السرة والركبة مما لا يظهر غالبا، كما لا يمنع أنّ العمل بين الناس والمشتهر كان ستر المرأة لما لا يظهر منها غالبًا أمام محارمها.

  3. أنّ هذا الترجيح في حد ذاته لا يلزم منه أن يكون ذلك هو المعمول به في ديار المسلمين، قال في الواضحة: "وما رأيت أمةً تخرج وإن كانت رائعةً إلا وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعرٍ محمم، لا تلقي جلبابًا لتُعرف الأمة من الحرة"(8) ، ولو كانت الإماء يكشفن أكثر من ذلك لذكره، أما وقد اكتفى بكشف الشعر ففي ذلك إشارة قوية إلى أنّهن لا يكشفن ما هو أعظم من الشعر كالصدر والظهر.

  4. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم يقررون أنّه لا يحل النظر للأمة بشهوة، قال ابن عبد البر في الكافي: "وعورة الأمة كعورة الرجل إلا أنه يكره النظر إلى ما تحت ثيابها لغير سيدها، وتأمل ثديها وصدرها وما يدعو إلى الفتنة منها، ويستحب لها كشف رأسها، ويكره لها كشف جسدها"(9) ، وقال النووي رحمه الله- وهو شافعي- في المنهاج: "والأصح حل النظر بلا شهوةٍ إلى الأمة إلا ما بين سرةٍ وركبة" وقال الخطيب الشربيني معلقًا: "أما النظر بشهوة فحرامٌ قطعًا لكل منظورٍ إليه من مَحرم وغيره غير زوجته وأمته"(10)، ويقول الشيخ أحمد الصاوي المالكي "واعلم أنّه لا يلزم من جواز الرؤية جواز الجس، فلذلك يجوز للمرأة أن ترى من الأجنبي الوجه والأطراف ولا يجوز لها لمس ذلك"(11).

  5. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم كانوا يقررون أن ستر الصدر والظهر والساق مستحب، ومن أمثلة ذلك قول العلامة المالكي أبو عبد الله محمد الخرشي في شرح مختصر خليل "لما قدّم تحديد عورة الأمة الواجب سترها أشار لحكم ما عداها، المعنى أنّ الأمة ومن فيها بقية رقّ من مكاتِبة ومبعضَة غير أم الولد- بدليل ما يأتي- لا تطلب لا وجوبًا ولا ندبًا بتغطية رأس، بخلاف ستر جميع الجسد فمطلوبٌ لها"(12)، هذا والمعتمد عند المالكية أنّ العورة ما بين السرة والركبة لكنهم أنفسهم يقررون أن "ستر جميع الجسد- ماعدا الرأس- مطلوب"، ويتناقلون قول الإمام مالك رحمه الله وقد سئل: أتكره أن تخرج الجارية المملوكة متجردة؟ فقال: نعم، وأضربها على ذلك. قال محمد بن رشد: يريد متجردة مكشوفة الظهر أو البطن(13). ويقول أبو الحسن الماوردي الشافعي في بيان ما على الزوج من نفقة لكسوة خادم زوجته: "وإن كان الخادم أمةً كساها قميصًا وقناعًا ولم يقتصر بها على المئزر وحده وإن ألفوه، لأنّه يُبدي من جسدها ما تُغَضُّ عنه الأبصار وإن لم تكن عورة".(14)

وعليه فثمّ فرقٌ بين القول ومقصد القائل منه، فقد تختلف مع القول وترى أنّه خلاف الصواب من خلال النظر في أدلته وحسب، ولكن لتحكم على القائل يلزمك- إنصافًا- أن تنظر في سائر أقواله وأفعاله وسيرته مما له تعلق بهذا القول، فالقول بأنّ عورة الأمة هي ما بين السرة والركبة، لا يلزم منه الدعوة للاكتفاء بذلك، ولم يكن عليه العمل في المجتمع الإسلامي في القرون الأولى، ولا يجوز النظر للأمة بشهوة، وتغض عنها الأبصار، ولا يجوز لمسها، والمنقول عن هؤلاء الفقهاء أنّ ستر ما عدا السرة والركبة مستحب ومطلوب إلا الرأس، ويجعلون توفير ما يستر ذلك مما يلزم من عليه نفقة الأمة. وسئل مالك رحمه الله عن خروج الأمة متجردة كاشفةً لبطنها وظهرها فقال إنه يكرهه ويعاقبها إن فعلت ذلك، ولا شأن لنا بعد ذلك بصورٍ تتداولها بعض المواقع يزعمونها لإماء في بلاد المسلمين في القرون المتأخرة، إذ العبرة بكلام أهل العلم وتطبيقهم المنتشر في القرون الأولى.

القول الثالث

أنّها كالحرة (وهو قولٌ عند الشافعية والحنابلة، وهو قول أهل الظاهر).

قال النووي رحمه الله "قد صرّح صاحب البيان وغيره بأنّ الأمة كالحرة، وهو مقتضى إطلاق كثيرين، وهو أرجح دليلًا والله أعلم"(15) ، وقال "والأصح عند المحققين أن الأمة كالحرة والله أعلم"(16)، وقال ابن حزم رحمه الله مشددًا في رفض الفرق بين الحرة والأمة "وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله تعالى واحد، والخلقة والطبيعة واحدة، كل ذلك في الحرائر والإماء سواء، حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيءٍ فيوقف عنده"(17) ، ثمّ أطال رحمه الله في إيراد أدلة المفرّقين والرد عليها، وهذا هو قول الشيخ الألباني رحمه الله من المتأخرين.

وعلى هذا القول بعدم التفرقة فلا إشكال أصلًا من الناحية الأخلاقية، وإن كان هذا القول مرجوحًا كما سيأتي بيانه عند تناول الأدلة إن شاء الله.

القول الرابع

كلها عورة إلا ما يظهر غالبا، فقيل إلا الرأس، وقيل إلا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، وقيل: الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى أنصاف الساقين (قولٌ عند الحنابلة وقول عند الشافعية).

قال ابن تيمية رحمه الله: "والثاني- أي ما لا يظهر غالبًا- هو عورة، قاله القاضي في الجامع وابنه أبو الحسين وذكر أنه منصوص أحمد، وهو اختيار أبي الحسن الآمدي، وهو أشبه بكلام أحمد وأصح، لأن عليًّا رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج، ومعلومٌ أنّها لا تخرج عارية الصدر والظهر، ولأن الفرق بين الحرة والأمة إنما هو في القناع ونحوه كما دلت عليه الآثار، ولأنهن كن قبل أن ينزل الحجاب مستويات في ستر الأبدان، فلما أمر الحرائر بالاحتجاب والتجلبب بقي الإماء على ما كنّ عليه، فأما كشف ما سوى الضواحي- أي الأطراف التي تظهر غالبا- فلم يكن عادتهن ولم يأذن لهن في كشفه فلا معنى لإخراجه من العورة، ولأن الله تعالى أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، وقميص الأَمة ورداؤها من زينتها بخلاف الخمار، ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى الرجل أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء تكميلًا للتزين بستر المنكب، فكيف يأذن للأمة أن تصلي وظهرها وصدرها مكشوف مع العلم بأن انكشاف ذلك منها أشد قبحًا و تفاحشًا من انكشاف منكب الرجل".(18)

وهذا القول بستر ما لا يظهر غالبًا وعدم ستر الرأس واليدين والقدمين، لا يحمل شناعةً أخلاقية، وأنت ترى أنّ هذا هو الأصل في ثياب المحافظين من غير أصحاب الدين، يسترن جميع الجسم إلا الوجه والشعر واليدين وأسفل الساقين، لا يرى أحدٌ حتى من غير أصحاب الدين أنّ هذا ينافي الستر أو الحشمة أو التحفظ في الثياب مطلقًا، وقد كان عرب الجاهلية أصحاب مروءة ونخوة وكانوا يسمحون لنسائهم بالخروج كاشفاتٍ عن رؤوسهن وأيديهن دون حرج، فليس في هذا القول أية نقيصة أخلاقية لذاته.

القول الخامس

التفريق بين الإماء بحسب أحوالهن، فالخفرة- أي التي لا تكثر الخروج ويغلبها الحياء- ليست كالبرزة- التي تُكثر الخروج، والجميلة ليست كالقبيحة، وإماء التسري لسن كإماء المهنة، وهو قول بعض المحققين من أصحاب المذاهب أو المستقلين، وهو رواية عن الإمام أحمد كذلك.

في مسائل الإمام أحمد "قلتُ لأحمد: تكره للأمة أن تخرج متقنعة؟ قال: أما إذا كانت جميلة تنتقب!"(19). وقال الشيخ على العدوي رحمه الله ناقلًا عن القاضي عياض قوله "ولا ينبغي اليوم الكشف مطلقًا لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت مكشوفة الرأس في الأسواق والأزقة لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك ويلزم الإماء بهيئة تميزهن من الحرائر"(20). وقال عبد الملك بن حبيب المالكي رحمه الله: "وما رأيتُ بالمدينة أمَة تخرج وإن كانت رائعةً إلا وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعر محمم لا تلقي على رأسها جلبابًا لتعرف الأمة من الحرة، إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت اليوم جاريةٌ رائعةٌ مكشوفة الرأس في الأسواق والأزقة، لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك ويلزم الإماء من الهيئة في لباسهن ما يعرفن به من الحرائر"(21).

وقال ابن تيمية رحمه الله "فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمَة والنظر إليها فتنة وجب المنع من ذلك"(22)، وقال ابن القيم رحمه الله إنّ "الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟ فهذا غلطٌ محضٌ على الشريعة "(23).

قال القرطبي رحمه الله في التفسير: "وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل".

وهذا القول يراعي الناظر فيه أنّ الوضع تغيّر عن زمان النبوة، إمّا من جهة حسن الإماء، فقد كانت الإماء في القرون الأولى غير حسان في الجملة، فكان التشريع مناسبًا لتلك الحال، فمن نظر إلى هذه الجهة رأى أن الجميلة تكون كالحرة، وأما بتغير الحال من جهة الناس، فقد كان الغالب على مجتمع النبوة الصلاح، ولما تغير الحال وفسد الزمان وكانت الفتنة تقع سريعًا بين الناس رأى بعض أهل العلم أنّ الأولى أن تكون الأمة كالحرة، وذلك من باب أن "بعض الأحكام الشرعية قد يكون مبنيًا على عرف الناس وعاداتهم، فإذا اختلفت العادة عن زمانٍ قبله، تتغير كيفية العمل بمقتضى الحكم، وأما أصله فلا يتغير"(24)، فأصل حكم الحجاب ثابت ولكن ما تعلق منه بوضع الإماء أو أحوال المجتمع ثم تغير العرف بخصوص الإماء أو بخصوص المجتمع فيتغير الحكم ليناسب العرف الحادث مع بقاء حكم الحجاب.

وهذا القول ليس فيه أية نقيصة أخلاقية أو منافاةٍ للستر، ففيه أنّ الجميلة وقليلة الخروج من الإماء تكون كالحرة، في حين تكشف كثيرة الخروج ومن ليست جميلةً عمّا يظهر منها غالبًا لمراعاة حالها حتى لا تقع في الحرج بتكليف ما يشق عليها، وهذا ليس فيه شيء كما سبق بيانه في التعليق على القول الرابع، ولكن يبقى الإشكال بالتفرقة بين الحرة والأمة أو بين الإماء وبعضهن، فهذا سيأتي جوابه في الكلام على مناسبة هذه التفرقة لحال الإماء والحرائر إن شاء الله.

القول السادس

وهو رواية في المذهب الحنبلي، وقد ردّ نسبتها للإمام أحمد بن حنبل شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: "وقد حكى جماعةٌ من أصحابنا رواية إن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهو غلطٌ قبيحٌ فاحشٌ على المذهب خصوصًا وعلى الشريعة عمومًا، فإن هذا لم يقله أحدٌ من أهل العلم وكلام أحمد أبعد شيءٍ عن هذا القول، وإنما كان يفعل مثل هذا أهل الجاهلية حين كانت المرأة الحرة والأمة تطوف بالبيت وقد سترت قبلها ودبرها، تقول: "اليوم يبدو بعضُه أو كله، وما بدا منه فلا أحله"، حتى نهى الله تعالى عن ذلك وأمر بأخذ الزينة عند المساجد، وسمّى فعلهم فاحشة، وإنما وقع الوهم فيه من جهة إن بعض أصحابنا قال عورة الأمة كعورة الرجل بعد أن حكى في عورة الرجل الروايتين، وإنما قصد أنها مثله في المشهور في المذهب"(25).

فهذا القول ليس إلّا رواية ضعيفة في المذهب الحنبلي لم يقُل برجحانها أحدٌ من فقهاء المذهب الحنبلي، وقد استظهر بعض أهل العلم الإجماع على أنّ فخذ الأمة عورة، فقال الشيخ علي العدوي المالكي رحمه الله "والظاهر أن النظر لفخذ الأمة عورةٌ بلا نزاع"(26)، وأنكر نسبة هذه الراوية للإمام أحمد محققٌ بثقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ هو فعلٌ جاهليٌّ وقولٌ لم يقل به أحدٌ من أهل العلم.

وهكذا.. فليست كلمة علماء المسلمين متفقةٌ على قولٍ واحدٍ في حجاب الإماء، والقول الأخير الذي يمثّل فحشًا منكرٌ ولم يرجّحه أحد، وبقية الأقوال إمّا تقول بالتسوية بين الإماء والحرائر أصلًا أو بمراعاة تغير الزمان، أو تقول إنّ الأمة عورتها ما لا يظهر غالبا- ماعدا الرأس واليدين والرجلين- وهذا لا يحمل شناعةً أخلاقيةً وعليه العمل عند المحافظين في سائر الأمم، أو تقول بعورة ما بين السرة والركبة مع استحباب وطلب ستر بقية الجسد مما لا يظهر غالبًا وإلزام من في رقبته نفقتها بتوفير ذلك، وإن وُجد بعد ذلك قولٌ يستلزم التشنيع الأخلاقي فهو قولٌ شاذ ليس قول جماهير علماء المسلمين ولا قول مذهبٍ من مذاهبهم، فضلًا عن أن يكون منصوصًا عليه في الشرع، وشرع الله حسنٌ كلّه ليس فيه ما يُنتقص.

أسئلة المقاصد

لنتصور أنّ ثمّ منطقة يكثُر فيها الفسّاق من الشباب، يجتمعون ليلًا يتمازحون ويخوضون، يؤذون النساء أثناء مرورهن في تلك المنطقة بالكلام تارة، وبالأيدي تارة، ثمّ أردتَ أن تنصح النساء لتفادي هؤلاء السفلة الذين يتلذذون بالمعاكسة والتحرش..

  • سأنصح النساء بعدم المرور من هذه المنطقة التي اشتهرت بهذا الأمر حتى لا يؤذين.

فما العمل مع النساء اللاتي يسكنّ في هذه المنطقة؟

  • سأنصحهن بعدم الخروج ليلًا قدر الإمكان لغلبة وجود هؤلاء الشباب ليلا، حتى لا يؤذين.

فما العمل مع اللاتي يسكنّ في هذه المنطقة ويعملن على قوتهنّ ولابد لهن من الخروج ليلا؟

  • يمكنك أن تنصحها بالاستعانة برجلٍ من عائلتها أثناء عودتها لبيتها ليلًا، حتى لا تؤذى.

فما العمل إن لم يتيسر لها وجود رجلٍ يرافقها عند عودتها ليلًا؟ هل عليها شيء تفعله؟

  • لو وصلنا لهذه النقطة فليس عندي ما أنصحها به، لا أريد أن أكون خياليًّا وأطلب منها أن تغير محل سكنها، ولن أضيّق عليها وأطالبها بعدم الخروج مطلقا، وسوف أراعي في النصيحة حال كلّ فردٍ بما يناسبه، لكنّ هناك نطاقا سأكتفي به في محاولة منع هؤلاء الفساق الذين يؤذون النساء، بنهيهم عن الأذية ومعاقبتهم على أفعالهم.

المقصود أنّ مقصدك وهو "حماية النساء من الأذية" لم يكن هو الحاكم الوحيد على توجيهاتك ونصائحك، فكان من ضمن ما وضعته في حسبانك عند النصيحة وضع المرأة وظروفها، فربما أردتَ حمايتها فأتيت على حساب راحتها فضيّقت عليها، أو أتيت على حساب سعيها فمنعتها من رزقها، ولذلك من الحكمة أن يكون مقصدك "حماية النساء من الأذية" و"عدم التضييق على النساء" بمراعاة العادة الغالبة في أحوال المجتمع، وهذا لا يعني أن قولك للنساء اللاتي لا يسكنّ في المنطقة "لا تذهبن لهذه المنطقة حتى لا تؤذين".. لا يعني قولك هذا رضاك بأذية النساء من أهل المنطقة، ولكنه خطابٌ يراعي عدم أذية النساء من خارج المنطقة ويراعي في الوقت نفسه عدم التضييق على النساء من أهل المنطقة.

الناظر في آيات الحجاب في كتاب الله تعالى سيجد عدة مقاصد مذكورة في الآيات الكريمة، ففي قوله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى" أعقبه قوله: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا". وقوله تعالى: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ" أعقبه قوله تعالى: "ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ". وقوله تعالى: "يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ" أعقبه قوله تعالى: "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ". وقوله تعالى: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ" أعقبه قوله تعالى: "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون". وقوله تعالى: "فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ" أعقبه قوله تعالى: "وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ".

فنحن أمام عدة مقاصد للتكليف بالحجاب وهي "ذهاب الرجس" و"طهارة القلب" و"مراعاة غيرة المحارم" و"قطع سبل الإيذاء" و"الفلاح" و"العفة"، وبمراعاة هذه المقاصد مع مراعاة الواقع وعدم التضييق على النساء تأتي التوجيهات، فنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرن ألّا يكلمن الرجال في بيوتهن إلا من وراء حجابٍ ولا تبرز شخوصُهن وإن كنّ بحضرة محارمهن، وهذا الحكم خاصٌّ بنساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه يوافق كمال طهارة القلوب وذهاب الرجس ومراعاة عدم أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لو طُرد هذا الحكم على كافة نساء المؤمنين لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق نساء المؤمنين دون أن يعني ذلك أن تحقيق طهارة القلب ليست مقصدًا في حق الجميع.

وكذلك نساء المؤمنين الحرائر أُمِرن إن خرجن أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وهذا الحكم خاصٌّ بالحرائر لأنّه يقطع عذرًا للفاسدين في إيذائهنّ، لكن لو طُرِد هذا الحكم على كافة المؤمنات ليشمل الإماء لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق الحرائر دون أن يعني ذلك أن منع أذية المجرمين ليست مقصدًا في حق الجميع.

تمامًا كما تقول للنساء- كما أسلفنا- لا تذهبن إلى تلك المنطقة المليئة بسفلة الشباب، وهذا النصح خاص بالنساء من خارج المنطقة لأنه يقطع عذرًا للفاسدين في إيذائهنّ، لكن لو طُرِد هذا الحكم على كافة النساء ليشمل أهل المنطقة لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق النساء من خارج المنطقة دون أن يعني ذلك أن منع أذية المجرمين ليست مقصدًا في حق الجميع.

إذن..

  • هل التمييز واقع بين النساء الحرائر والإماء في الحكم، كما وقع بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبقية النساء، كما وقع بين نساء المنطقة السكنية ومن هنّ خارجها؟

نعم، التمييز واقع.

  • فلماذا هذا التمييز؟

مراعاةً لعدم التضييق على النساء، فالحكم الذي لا يضّيق عليهن ولا يسبب عنتًا يُطالبن به، وما سبب الضيق والعنت لم يؤمر به، وأُمِرنا بالسعي في تحقيقه بطرقٍ أخرى بعيدة عن النساء كنصوص منع الأذى ومعاقبة المفسدين.

  • هل هذا التمييز يعني عدم رعاية مقاصد مراعاة غيرة المحارم والطهر والعفاف وذهاب الرجس وسد ذريعة الأذية في حق النساء جميعًا؟

لا يعني ذلك، كما لا يعني اختصاص نساء النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأحكام الحط من سائر النساء، فلا يعني مجرد اختصاص الحرائر ببعض الأحكام الحط من الإماء، لأنّ المقصد يكون أكثر إلحاحًا أو مراعاته أيسر في حق بعض النساء دون بعض، فمراعاة عدم أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ في حق نساء النبي، وإدناء النساء من جلابيبهن في حق الحرائر أيسر منه في حق الإماء.

وهنا ينبغي التنبيه على عدة نقاط:

النقطة الأولى

يخطئ بعض الناظرين حين يزعم أنّ الحجاب إنّما شُرع للتمييز بين الحرة والأمة فحسب، وإنّما الصواب أنّ تشريع الحجاب يحقق عدة مقاصد وردت منصوصًا عليها في الآيات الكريمات كما سبق، ومنها سد ذرائع أذية النساء بقطع حجة من حجج المؤذين أنّهم حسبوها أمَة، فشُرع ما يميّز بين الاثنين قطعًا لهذه الذريعة، مع العلم أنّ هذا المميّز يصعب على الإماء الالتزام به، فلو كلّفن به لاجتمع عليهن مشقة التكليف واحتمالية وقوع الأذى في كل حال، فناسب في حقهنّ منع الإيذاء بالطرق الأخرى.

النقطة الثانية

أنّ إدناء الجلابيب يحقق المعرفة بالحرية وحسب، ولا يمنع من معرفة الشخص، فقد خرجت سودة بنت زمعة رضي الله عنها بعد الحجاب وقد أدنت عليها من جلبابها فعرفها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشخصها، ولما خرجت إحدى الإماء متقنعة عرفها عمرُ رضي الله عنه. قال الشوكاني رحمه الله في التفسير: "أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء، ويظهر للناس أنهن حرائر فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله "ذلك أدنى أن يعرفن" أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء، لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر"اهـ.

فحتى لو لبست الأمة وأدنت عليها من الجلباب فهذا لا يمنع أن يعرفها أحد المؤذين بشخصها فيؤذيها، فالإدناء لا يمثّل ضمانة تامة لمنع الأذية. ونحن في أيامنا نرى المحصنات المتسترات تمامًا قد يتعرضن للأذية من سفلة المتسكعين في الشوارع! نعم.. يقل ذلك الإيذاء والتعرض في حق صاحبات الحجاب ولكنّه موجود على أية حال، ويجب منعه بردع هؤلاء المتسكعين وعقوبتهم ليكفوا أذاهم عن عباد الله.

النقطة الثالثة

أن رغبة بعض الناظرين في المساواة تُعميه عن ملاحظة ظروف الأمَة التي تعمل في مهنة البيت وتنظيفه وما شابه، كما أنّها تظهر أمام مولاها وأضيافه، وتخرج لمختلف الحاجات كالشراء ورعاية الغنم وغيره، تُعميه الرغبة في المساواة فيطالب بتكليفها بإدناء الجلباب عليها ليزيدها مشقة التكليف فوق خشية الإيذاء، ولك أن تتخيل امرأةً تخرج وتدخل في اليوم أكثر من عشرين مرة، تطالب في كلّ مرة أن تدني عليها من جلبابها، مع العلم أنّ الجلباب ليس ضمانةً ألا تُعرف بشخصها فضلا عن أن تعرف أنّها أمَة، ولا يمثل ضمانةً تامةً في منع الأذى، وإنما هو وسيلة لقطع إحدى اعتذارات الذين يؤذون النساء، يطالبون- من أجل رغبتهم بالمساواة- أن يُعنت الشرع الأمَة التي قد تخرج وتدخل أكثر من عشرين مرةٍ في اليوم!

ألا ينظر أحدهم إلى المرأة العاملة في مجتمعنا هذا، خصوصًا التي يضطرها عملها للخروج ليلًا والتعامل مع الرجال، مع شدة حاجتها للمال في كثيرٍ من الأحيان، مثل النساء العاملات بمهنة التمريض والبيع في المحلات؟ ألا ينظر أحدهم فيقف على شيءٍ من الجهد الذي تبذله لتحافظ على حجابها وحيائها وتفرض حاجز الحشمة بينها وبين الرجال؟ هذا وهنّ ملتزماتٌ بساعاتٍ قليلةٍ في العمل تصل إلى ثماني ساعات في الغالب! ألا ينظر أحدهم فيعلم مقدار الجهد الذي ستبذله الأمة وهي التي في هذه الحال طوال اليوم- تخدم مولاها وأضيافه وتخرج وتشتري- لو كلّفت بإدناء الجلباب أو تغطية الوجه؟ أم أنّهم لا يعرفون شيئًا عن حال هؤلاء العاملات ولا يبالون إلّا بالاعتراض على ما لا يتصورونه من أحكام الشريعة التي تأتي مناسبةً للأحوال؟

النقطة الرابعة

أنّ هذا الذي ذكرناه من حال الأمَة وعملها هو الذي التمس به علماء المسلمين الحكمة في اختصاص الحرائر بزيادة التستر الواجب، وهذا التمييز إنّما كان لمناسبة حال الأمَة، ولم يكن الحجاب لمجرد التمييز بين الحرة والأمة، وإنما للتخفيف على الأمة، وبيان ذلك من وجوه:

  1. لو كانت علة التفرقة هي في كونها أمةً فحسب، لكان هناك فرقٌ في عورة الرجل بين العبد والحر، وليس في الشريعة هذا الفرق.

  2. قال ابن تيمية رحمه الله: "الأصل إن عورة الأمة كعورة الحرة كما إن عورة العبد كعورة الحر، لكن لما كانت مظنة المهنة والخدمة، وحرمتها تنقص عن حرمة الحرة، رخص لها في إبداء ما تحتاج إلى إبدائه وقطع شبهها بالحرة"(27). فالتخفيف عن الأمة في شأن الحجاب جاء مراعاة لشأنها وعملها مع ما عُلِم من ضعف غيرة الرجال عليها، فكان الأنسب لها التخفيف عليها.

  3. أنّ عورة الأمة مع الرجال أشبهت عورة الحرة مع محارمها، وعورة الحرة مع محارمها راعت عملها في مهنة بيتها وحركتها فيه وتعاملها مع محارمها، فكذلك عورة الأمة مع الرجال راعت غلبة خروجها وحركتها في الشارع وتعاملها مع الرجال، قال شيخ الإسلام برهان الدين المرغيناني الحنفي: "لأنّها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادةً فاعتُبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال دفعًا للحرج"، وعلّق عليه ابن الهمام الحنفي رحمه الله قائلًا: "المسقط لحكم العورة حتى تبعته هي في السقوط: الحرج اللازم من إعطاء بدنها كله حكم العورة مع الحاجة إلى خروجها ومباشرتها الأعمال الموجِبة للمخالطة"(28).

  4. يرى الفقهاء أنّ الستر في حق الإماء أمام الأجانب أولى منه في حقّ الحرة أمام محارمها. يقول العلامة الزيلعي رحمه الله في الاستدلال بقياس الأولى على أنّ ظهر الأمة عورة: "ولهذا لو جعل امرأته كظهر أمّه الأمة كان مظاهرًا منها، والظّهار لا يكون إلا بما لا يحل النظر إليه، فإذا حرُم على الابن فعلى الأجنبي أولى أن يحرُم، ويدخل في هذا الجواب أم الولد والمُدبّرة والمكاتبة والمستسعاة عند أبي حنيفة"(29)، فكما ترى أنّ الحكمة التي التمسها العلماء كانت من طبيعة حياة الأمة، وأنزلوها منزلة عورة المرأة مع محارمها مع جعل شأنها أمام الأجانب أولى بالستر.

  5. أنّ هذا التشريع كما يراعي منع الحرج الذي سيقع على الإماء لظروف عملهن، يراعي فقرهن وعدم المشقة على من تلزمه نفقتهن، وفي الصحيح أنّ أم عطية لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالخروج للعيد قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها من جلبابها.

  6. بالإضافة إلى أنّه يراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية فإنه يراعي الحالة الدينية، فالغالب في وسط الإماء ضعف الوازع الديني، فتراعي الشريعة فيمن هذا حاله ألا تشدد عليه بالتكاليف، ولذلك فمثل هذا لو أخطأ تكون العقوبة في حقه أخف، وهذا من حسن وجمال الشريعة الإسلامية. ومن ذلك أن الأمة لو زنت فعليها نصف الحد الذي على الحرة، لقوله تعالى: "فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَات مِنَ العَذَاب"، قال ابن عاشور رحمه الله عند تعرضه لأحد المذاهب في التخفيف على الإماء في الحد لطبيعة مهنتهن وظروف حياتهن: "أن فيه للمتبصر بتصريف الشريعة عبرةً في تغليظ العقوبة بمقدار قوة الخيانة وضعف المعذرة".

  7. لو كانت العلة في العبودية والحرية لما قال بعض فقهاء المسلمين إنّ الأمة لو خلت من غلبة المهنة عليها فإنّها تصير كالحرة كما في القول الخامس أعلاه.

  8. أن من الحرائر من تكون عورتها- على قولٍ لبعض أهل العلم- أمام الأجانب كعورة الأمة أمامهم، وذلك بمراعاة انقطاع الشهوة فيهن، ولو كان الحجاب متعلقًا بالحرية فحسب لالتزمت به الحرة وإن بلغت من العمر أرذله، قال تعالى: "وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (النور: 60).

  9. لو كان محل النظر هو الحرية والعبودية في الحجاب، لما كان في الفقهاء من علّق الحكم بجمال الإماء أو بفساد الزمان، كما هو القول الخامس من أقوال أهل العلم الذي سبق بيانُه أعلاه، فقول هؤلاء نفسه قرينة على أنّ العبرة لم تكن بالحرية أو العبودية في تشريع الحجاب.

  10. أن الشرع الإسلامي أتى بأقصى الممكن في حسن معاملة الإماء والعبيد مع فتح أبواب العتق على مصراعيها، وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم". أفيُقال في هذا الشرع أنّه جاء للتمييز بين الأمة والحرة في الحجاب من أجل التمييز وحسب؟ لا والله! بل جاء لرفع الحرج عن الإماء إن كُلّفن به!

النقطة الخامسة

أنّ المقصد من الستر في الصلاة ليس هو كالمقصد من الستر في باب النظر فيما يتعلق بمراعاة الغيرة ودفع الشهوة وتزكية القلب وذهاب الرجس، فإن المقصد في الستر في الصلاة هو اتخاذ الزينة لقوله تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ"، والمقصد في الستر في الخلوة هو الحياء من الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن عورة المرء خاليا: "الله أحق أن يُستحيا منه من الناس".

فرغم أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة في باب النظر إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء" (متفقٌ عليه واللفظ لمسلم). وبينما نُقل الإجماع على ترك المرأة تغطية وجهها في الصلاة إن لم تكن تصلي بحضرة الرجال الأجانب، فقد اتفق العلماء على استحباب تغطية الوجه في باب النظر خارج الصلاة.

فالعورة في الصلاة تراعي تحقق الزينة وتراعي الحياء من الله وتراعي عدم المشقة في التكليف، فلا ضير أن تكون عورة الأمة في الصلاة كعورتها خارجها بكشف ما يظهر غالبا، لأنّ هذا بالنسبة لها زينة ويراعي الحياء الذي اعتادته ولا يشق عليها. ولا ضير أن تكون عورة الحرة جسدها ماعدا الوجه والكفين، لأن هذا بالنسبة لها زينة ويراعي الحياء الذي اعتادته ولا يشق عليها. فعورة الأمة في الصلاة كعورتها خارجها، وعورة الحرة في الصلاة كعورتها خارجها عند القائلين بأنّ الوجه والكفين ليسا بعورة.

قال علي رضي الله عنه: "تصلي الأمة كما تخرج"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنّ الأمة إذا كانت تخرج مكشوفة الرأس، فأن تصح صلاتها هكذا كان أولى وأحرى، فإن ما تستره المرأة عن الناس أشد مما تستره في الصلاة، ولأنه إذا لم يكن الاختمار واجبًا عليها ولا كانت عادة إمائهن ذلك فمعلومٌ أنهم لم يكونوا وقت الصلاة يضعون لهن خمرًا، ولا يغيرون لهن هيئة، وهذا مما لا نعلم فيه خلافًا"(30). وقال رحمه الله: "الله تعالى أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، وقميص الأَمة ورداؤها من زينتها بخلاف الخمار، ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى الرجل أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء تكميلًا للتزين بستر المنكب، فكيف يأذن للأمة أن تصلي وظهرها وصدرها مكشوف مع العلم بأن انكشاف ذلك منها أشد قبحًا وتفاحشًا من انكشاف منكب الرجل؟"(31)

فالمقصود أنّ مفهوم الزينة والحياء عند الأمة والحرة مطلوبٌ وثابت، ولكن تحققه وضبطه في الصلاة متروكٌ للشرع ليس لا للعقل فيه مدخل، لأنّ الصلاة اصطاف المرء بين يدي ربه، والله هو الذي شرع تفاصيل الحجاب، ومثل هذا لا يُعترض عليه بالعقل، طالما روعي اختلاف الوسط والقدرة المالية والسيرة العملية في الحياة.

النقطة السادسة

يخطئ كذلك من يجعل الحجاب قضية مرتبطة بالقبيلة ومقصورة على زمان النبوة، إذ النصوص الواردة في الحجاب قد أتت كلّها مصرّحة بقيمٍ تتجاوز تراتيب القبيلة وحدود مجتمعها، فلا يُقال فيما شُرِع للطُهر وإذهاب الرجس وسد ذريعة الأذى ومراعاة غيرة المحارم والعفة والفلاح، كل هذه القيم والمبادئ لا يمكن ربطها بالقبيلة ولا وجود الإماء، وإنّما هي مقاصد أو مثل عليا تُراعى أو يُسعى إليها في كل حين.

النقطة السابعة

أنّ النظر المقاصدي- الذي يُراعي مقاصد الشريعة- لموضوع الحجاب يرجّح كِفة الالتزام والتمسك بالحجاب، ولذلك فدعوة العقلانيين لتقييد الحجاب والاكتفاء بالإلحاح على الإشارة للمقاصد العامة للشريعة، هذا الكلام يخالف مقتضى النظر المقاصدي الذي يدّعون غلبته عليهم في سائر القضايا، إذ التكليف بالحجاب كما هو ظاهر يمتد ليشمل عدة مقاصد ويحول دون الاستغراق في تحقيق هذه المقاصد مراعاة حال النساء، فكمال طُهر القلب ودفع تأذي الزوج والمحارم يتأتى بخطاب الرجال في البيوت من وراء حجاب عند وجود الحاجة حتى في حالة وجود محرم. ولما كان هذان المقصدان أشد إلحاحا في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمرن بذلك، ولو أمر بهن سائر النساء لشقّ ذلك عليهن، فمقتضى النظر المقاصدي أنّه لو تيسر لامرأة من النساء أن تتستر من الرجال بشخصها فلتفعل، بينما النظر التوقيفي- الملتزم بالنص- يلتزم بخصوصية نساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو تيسر فعله لمن سواهن.

وكذلك تميز الحرائر بالإدناء عليهن من جلابيبهن حال الخروج حتى لا يؤذين، ولو أمر به الإماء لشقّ عليهن كما سبق بيانه، فمقتضى النظر المقاصدي أنّه لو كانت أمةٌ تستطيع الالتزام بهذا الإدناء ولا يشق عليها فإنّها تفعله وهذا هو القول الخامس من أقوال أهل العلم التي أوردناها، ومقتضى النظر التوقيفي الملتزم بالنص أنّ يلتزم بخصوصية الحرة مقابل الأمة وهذا هو مدار النظر في الأقوال الأربعة الأولى المذكورة أعلاه، ولذلك فأنا متردد في الترجيح بين القول الرابع والخامس من جهة ترجيح النظر المقاصدي والنظر التوقيفي، والمقصود أنّ النظر المقاصدي يقتضي الالتزام بالحجاب بعكس ما يروج له العقلانيون.

النقطة الثامنة

ليس من شرط اعتبار المقصد شرعًا أن ينفرد التشريع بمراعاته، فقد يراعي التشريع مقصدًا فيأتي بما يناسب كمال تحقق هذا المقصد، ثمّ يأتي تشريع آخر أو نفس التشريع فيراعي هذا المقصد ويتنازعه مقصد آخر فيأتي بما يناسب تحقق المقصدين جميعًا دون أن ينفي ذلك إرادتهما للشارع. فغض البصر مثلًا أتى ليحقق كمال تحقق العفة والطهر وذهاب الرجس ومراعاة غيرة المحارم ودفع الأذى على أكمل تحقق ممكن، لكن لم يأمر الله ألا يخرج الرجال من بيوتهم مثلًا لأنّ هذا لا يناسب السعي وعمارة الأرض. كذلك الحجاب يراعي تحقق العفة والطهر وذهاب الرجس ومراعاة غيرة المحارم ودفع الأذى على أكمل تحقق ممكن، لكن لم يأمر الله نساء المؤمنين بمخاطبة الرجال من وراء حجاب حتى في وجود المحارم وإنما خص به نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر تعالى الإماء بالإدناء عليهن من جلابيبهن وذلك مراعاةً لعدم التكليف بما لا يُطاق ورفع العنت، وهذا من مقاصد الشريعة كما قال تعالى: "وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ" (محمد: 36-37).

وأخيرًا..

  • الأمَة والحرة يُتعرض لهنّ بالأذى.. فما العمل؟

أتخذ كافة السبل لمنع الأذية..

  • فإن كان هناك سبيلٌ يصلح للحرة دون الأمة؟

سألجأ إليه في حق الحرة، حتى لا أشق على الأمَة.

  • فإن فهم أحد بلجوئك إليها أنّك تؤيد أذية الأمَة؟

هذا من سوء فهمه، وإلا فالنصوص الصريحة في منع الأذية وعقوبة المؤذين، وإجماع العلماء على عدم جواز إيذاء الأمة، ومنع السيد من إيذاء أمته، ومنع المسلمين من التعرض للنساء المشركات في الحرب، كل هذا يقطع شبهة الرضا بالأذية في حق الأمة.


الهوامش

  1. المقصود هو بيان تضخيم قضية الحجاب وأثرها في الشبهة، وليس المقصود التعرض لدراسة أسباب هذا التضخيم والبحث في كونه كان ردّ فعلٍ لدعاوى التغريب والتحرر أم كان إنشاء فعل، ولا المقصود البحث في مناسبته كرد فعل لدعاوى التحرر، فكل هذا خارج محل البحث.

  2. ولستُ أورد هذه القصة عاتبًا على المرأة، وإنما الشأن في كون هذه القصة حدثت أصلا أو لا، وفي استعمال هذه القصة لبيان التقصير الذي تقع فيه بعض النساء بكشف الوجه، والحياء ليس قيمة مطلقة حاكمة على ما سواها لا يقف أمامها شيء، بل قد تتنازعه قيمٌ أخرى فتغلب عليه، والله عزّ وجل "حيي كريم" وفي الآية "إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ"، وأم سليم رضي الله عنها لما جاءت تسأل عن غسل المرأة قدّمت بقولها: "إن الله لا يستحي من الحق" كما ثبت في الصحيح.

  3. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272،273).

  4. جلال الدين السيوطي- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية – صفحة 226 فما بعدها.

  5. وقد راعى الإسلام في هذا المقام هذا المولود، فجعل الزواج بالأمة آخر الاختيارات بعد الزواج بالحرة والقدرة على الصبر ثم يأتي الزواج بالأمة، ومراعاته هي الأساس في توجيه الأمر في الآية الكريمة كما يتضح من كلام ابن عاشور رحمه الله في تفسير الآية، فإن أبى أحدهم ولم يجد ولم يصبر ثم تزوج بأمة، فما العمل؟ لو قلنا تصير الأمة حرة بمجرد الزواج سيعضلها سيدها ويمنعها من الزواج، ولو قلنا تبقى أمة ويصير ابنها حرا ستكون تلك تفرقة بين الأم وابنها، وعلوًا للابن على أمه. وهاهنا تظهر معضلة: هل يعلو على أمّه ويُلحق بأبيه لحريته أم يكون عبدًا له حسن المعاملة وإمكانية المكاتبة؟ لا أحسب أن الإجابة على سؤال كهذا سهلا، نعم هي مسألة معضلة والتعامل معها شائك، لكن لا يُقال إن اختيار أحد الاختيارين من الوضوح والسهولة بمكان من الناحية الأخلاقية بحيث لا نفكر مائة مرة قبل اتخاذ الحكم، ولذلك فالمقصود أنّه في الجملة لا يوجد في التعامل الإسلامي مع قضية العبودية شيءٌ واضح البطلان من الناحية الأخلاقية، وإنما ستجد الحيرة العقلية متعلقة ببعض الأمور المعضلة فعلا، وهنا يمكن مطالبة الخصم- حتى لو كان ملحدًا- بالتسليم مادمنا وصلنا لنقطة محيرة مشكلة، مثل مقارنة مقام الأمومة المستقيمة بمقام الحرية مثلا.. الحكم ليس سهلا نعم، لكن لا نستطيع أن نتهم أيًّا من الاختيارين بالبطلان، ويمكننا أن نحكم من خلال الأثر بالنظر إلى شهادات من رأى التعامل مع الإماء والعبيد في ديار المسلمين من غير المسلمين وأعجب بحسن المعاملة، وفي النهاية فهذا مثال يدل على ما يؤدي إليه سوء تصور وضع الإماء إلى سوء فهم النصوص وإن كانت علاقته بموضوع حجاب الإماء الذي هو محل المقالات بعيدة.

  6. مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين- 10:732.

  7. التمهيد لابن عبد البر – تحقيق: سعيد أحمد أعراب- 21:256.

  8. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي - مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة - (2: 189).

  9. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي - مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة - (2: 186).

  10. الخطيب الشربيني – مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج – 3:175.

  11. الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك ومعه حاشية الصاوي – 1:290.

  12. شرح الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي – المطبعة الخيرية 1307 هـ- نسخة مصورة – 248.

  13. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي - مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة - (2: 189).

  14. أبو الحسن الماوردي – الحاوي الكبير – تحقيق: علي معوض وعادل عبد الموجود – 11:431.

  15. الإمام النووي - روضة الطالبين وعمدة المفتين – 7:23.

  16. الإمام النووي - منهاج الطالبين وعمدة المفتين – 1:204، وقد نسب إلى البلقيني رحمه الله أنّه قال في التصحيح: "وما ادعاه المصنف أنّه الأصح عند المحققين لا يُعرف، وهو شاذ مخالف لإطلاق نص الشافعي في عورة الأمة ومخالف لما عليه جمهور أصحابه"اهـ.

  17. أبو محمد ابن حزم رحمه الله – المحلى – صفحة 306.

  18. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 274،275).

  19. مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية برواية إسحاق بن منصور المروزي – صفحة: 4706.

  20. شرح الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي – المطبعة الخيرية 1307 هـ- نسخة مصورة – 248.

  21. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي - مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة - (2: 189).

  22. ابن تيمية – مجموع الفتاوى – 15: 374.

  23. ابن القيم – إعلام الموقعين عن رب العالمين– 3:284.

  24. يعقوب الباحسين – قاعدة العادة محكمة: دراسة نظرية تأصيلية تطبيقية – 226.

  25. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272،273).

  26. شرح الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي – المطبعة الخيرية 1307 هـ- نسخة مصورة – 246.

  27. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 :275).

  28. فتح القدير لابن الهمام الحنفي على متن شرح الهداية لشيخ الإسلام برهان الدين – المطبعة الكبرى الأميرية 1325 هـ - نسخة مصورة- صفحة 183- 184.

  29. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي رحمه الله – نسخة مصورة – 1:97.

  30. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272).

  31. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 274،275).


شارك هذه الصفحة مع الناس، فواللهِ لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ.