كيف ننتقد الكافر المتقدم علميا؟

هل يمنعنا تخلفنا العلمي والتقني من انتقاد الكافر المتقدم علميا؟

وهل تقدم الكافر علميا وتقنيا وتأخرنا عنه في هذا المجال يعني أنه على حق ونحن على باطل؟

هذه الشبهة قديمة، وقد عالجها القرآن فقال: ﴿وَإِذا تُتلى عَلَيهِم آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذينَ كَفَروا لِلَّذينَ آمَنوا أَيُّ الفَريقَينِ خَيرٌ مَقامًا وَأَحسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣]

فمعيار الحق والباطل عندهم هو الوضع الاقتصادي والترف!

لقد غرس النبي– صلى الله عليه وسلم- في أصحابه الشموخ بالعلوم الإلهية فوق المدنيات الصغيرة مقارنة بجلال المعرفة الإلهية، ونبّه أصحابه إلى أن التنوير الحقيقي هو نور الوحي، وربّى أصحابه على أن تلك المجتمعات المتمدنة تحتاج إليكم أضعاف ما تحتاجون إليهم، فهم إنما يملكون الوسائل بينما أنتم تعرفون الغايات، وشتان بين منزلة الوسيلة ومنزلة الغاية.

من أجل ذلك لم ينبهر الصحابة بالحضارات التي كانت في زمانهم! بل كانوا يقولون مرارا وتكرارا إنهم جاؤوا لإنقاذ هذه الحضارات من جاهليتها.

انظر إلى الصحابي الجليل ربعي بن عامر - رضي الله عنه - حين دخل على رستم قائد الفرس وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وملابسه الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. فلما دخل عليه ربعي كان يلبس ثيابا صفيقة ومعه سيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وخوذته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك! قال: إني لم آتكم وإِنّما جئتكم حين دعوتموني، فإما تركتموني هكذا وإِلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له! فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النَّمارق فخرَّقها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه.

انظر إلى احتقاره لزينة الكافر وبهرجه.. انظر إلى اعتزازه بجواب الأسئلة الوجودية الكبرى التي يحملها، التي تنخرق أمامها كل زينة الدنيا ومتعها!

فنجاح الصحابة المؤكد هو أنهم لم يكونوا يعانون من عقدة النقص التي يعاني منها بعض المعاصرين، بل كانت عزتهم في امتلاكهم أجوبة الأسئلة الوجودية الكبرى، وتأكيدهم على تفاهة الحياة الدنيا وحقارتها مقارنة بالنعيم الأبدي!

فلا يفرح الكافر بأكثر من أن يُبهرك بنمارقه المذهبة وزينته العظيمة، فالانكسار لفتنته يُنهي المعركة قبل أن تبدأ!

ولذلك لم يفت ربعي بن عامر جهل رستم بأعظم مطلوب وهو الله سبحانه فتحولت كل زينته إلى صورةٍ بلا قيمةٍ ولا غايةٍ كما يصف القرآن الكريم "والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام" سورة محمد 12.

فإجابة الأسئلة الوجودية الكبرى ترقى بمالكها وتسقط بمفتقدها.

وعند هذه النقطة لابد من إلماحةٍ هامة ذكرها إبراهيم السكران وهي أن: "هذا الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضارية والفنية قبيل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - ليس ذما لتلك المنجزات لذاتها، وإنما لأن أصحابها لم يتزكوا ويتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية، فلم يصلوا إلى الرقي والسمو الحقيقي، وهو مرتبة العبودية، وإنما بقوا في حضيض المنافسة الدنيوية.

هذا الموقف النبوي من أدق ما يبين أن الانتفاع بما لدى الغير لا يقتضي الانبهار بهم، وأن الذم لواقعهم لا يتعارض مع الاستفادة من الحكمة التي هي ضالة المؤمن."

د. هيثم طلعت (بتصرف)


شارك هذه الصفحة مع الناس، فواللهِ لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ.