نحن نفعل الخير لأنه خير وأنتم تبحثون عن الأجر

يقول بعض الملحدين إنهم يفعلون الخير لأنه خير وليس رجاء في الجزاء كالمسلمين، ولذا فهم أبعد عن المصلحة في فعل الخير.

عبارة "يفعل الخير لأنه خير" هي عبارة خادعة، فلا يوجد أي عمل يقوم به أي شخص إلا بمقابل. هذه حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها. فمن يعتقد أنه "يعمل الخير لأنه خير" إنما يعمله لأنه يشبع عنده رغبة فطرية سليمة تميل إلى عمل الخير، فعمل الخير يعطيه شعورا بالسعادة، ولهذا يسعى إليه.. وإلا لو كان عمل الخير يؤذي مشاعره ويزعجه لما عمله. فالنتيجة النهائية هي تحقيق رغبة واستمتاع بمشاعر مريحة ومفرحة عند هذه الشخصية الطبيعية.

لكن لماذا مثلا يقوم الماسوشي بتعذيب نفسه؟ أي خير في أن يعذب نفسه؟ الجواب هو أنه يشعر بالمتعة في ذلك لأنه لديه اضطراب نفسي. فتعذيب نفسه في معياره خير شخصي له.

بل حتى المنتحر لا يقدم على الانتحار إلا عند شعوره أن الفناء أفضل له من البقاء أو البقاء أسوأ من الفناء.

قال شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى (المجلد الثامن):

"الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك، وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمده لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء، لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة، كان عابثاً."

والقدرة على إصدار الأحكام بالخيرية تدخل فيها عوامل نفسية بالطبع فتفسدها وتكون الأحكام بدورها فاسدة.

تأمل مثلا ما الذي يجعل السادي يستمتع بتعذيب الآخرين.. نفس المعيار: اضطراب نفسي يجعله يستمتع بذلك الفعل الذي لا يحمل أي خير.. سوى خير وحيد يشعر به هو: المتعة!

فالحاصل هو أن هناك معايير مختلفة لتحديد وقياس الخيرية، وهذه المعايير ذاتية للغاية وغير موضوعية أبدا لأنها تخضع للذات والمشاعر.

فهل نترك الأمر لكل شخص أن يحدد الخيرية بلا معيار موضوعي محدد؟ هذا لا يستقيم لمصلحة حياة البشر.

إذن كيف نحصل على بوصلة واضحة ودقيقة ومضبوطة لا تتأثر بأية مؤثرات ذاتية؟

هذه البوصلة الواضحة والدقيقة للغاية هي معيار الثواب والعقاب الذي يحدده الوحي. فالوحي ينهاك عن إيذاء نفسك وإلا سينالك العقاب، وينهاك عن الاعتداء على الآخرين وإلا سينالك العقاب.. وهو في الوقت نفسه يأمرك بالإحسان للآخرين حتى تنال الثواب..

هنا صارت هذه البوصلة ضابطا دقيقا وواضحا لا مجال فيه للمراوغة.

قد يقال إن الأنظمة والقوانين تكفي في هذا الجانب.. لكن الواقع أنها غير كافية، ففيها ثغرات كثيرة، منها على سبيل المثال أن من السهل للمنحرف أن يرتكب الجرم إذا ضمن عدم اكتشافه ومحاسبته. بل إنه إذا توفرت الفرصة عند الملحد لسرقة المال دون أن تعود عليه السرقة بأي ضرر على الإطلاق، فإن عدم استغلاله لهذه الفرصة يعتبر بالمعيار المادي سلوكا أخرقا، ولا يمكن لأي ملحد أن يجادل في ذلك.

ومن هذه الثغرات أن المنحرف قد يؤذي نفسه، فأي قانون يستطيع أن يحاسبه؟ بل إنه قد يرتكب جريمة كبرى بحق نفسه وهي الانتحار، فأي قانون في الدنيا يستطيع أن يعاقب المنتحر؟

بينما كل هذه الثغرات غير موجودة عند وجود ضابط الثواب والعقاب الأخروي كما ورد في الوحي.

فعندما يقوم المؤمن بعمل الخير فهو أولا يشبع فطرته السوية التي تدعوه لذلك، ويحقق شعورا بالسعادة المضاعفة، أولا من تحقيق نزعته الفطرية للخير وثانيا من أمله في الثواب الأخروي.. أما إذا كان لديه اضطراب يفسد ميوله الفطرية إلى الخير فإن الضابط الأخروي يضمن استقامة سلوكه وتصرفاته وعدم خضوعها لذلك الاضطراب.

ولهذا فإن المؤمن يتسم بالسمو، وسلوكه تحركه قواه العقلية السامية التي تميزه عن البهائم، وهي التي تسيطر على عواطفه ومشاعره التي قد يعتريها الهوى والميل.


شارك هذه الصفحة مع الناس، فواللهِ لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ.