الشبهة حول "رجوم الشياطين"

مصدر الشبهة

مصدر الشبهة هو الفهم الخاطئ للآيات التي تنص على أن في السماء رجوما للشياطين، ومن هذه الآيات:

  • "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ" (الملك 5)
  • "وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا" (الجن 9)
  • "إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ" (الحجر 18)
  • "إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ" (الصافات 10)

وهذه الشبهة على أكثر من وجه.. فيقول الملحد إن المقصود بالمصابيح هي النجوم، فكيف تكون النجوم رجوما للشياطين وهي لا تقترب أصلا من الغلاف الجوي؟ ويقول أيضا إن الشهب ظواهر فلكية معروفة ويمكن تفسير سلوكها فكيف تكون رجوما للشياطين؟

مقدمات مهمة

يجب في البداية أن ندرك أمورا مهمة:

  1. أن المؤمن يختلف عن الملحد في أمر مهم جدا، وهو أنه يؤمن بالغيب والشهادة، في حين أن الملحد لا يؤمن إلا بعالم الشهادة. يقول الله تعالى في بداية سورة البقرة واصفا المؤمنين: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ". فوصفهم بأنهم يؤمنون بالغيب، ولكنه إيمان مبني على مصدر واحد، وهو الوحي. فالوحي عند المؤمن مصدر موثوق للمعرفة، على خلاف الملحد. والمسلم بالطبع لا يلزم الملحد أن يؤمن بالغيب، ولكنه يعتبر اتهام الملحد له بأنه يؤمن بالغيب فيه شيء من الغفلة إذ أن إيمانه بالغيب حقيقة وليس تهمة، والمؤمن لو نفى عن نفسه الإيمان بالغيب أصلا لكفر.

  2. أن نعرف معنى لفظة "السماء" في لغة العرب، فهي ترد بعدة معان منها: "ما يقابل الأرض" و"كل ما علاك وأظلك" و"من كل شيء أعلاه".. الخ. وعلى ذلك وردت لفظة السماء في القرآن الكريم بعدة دلالات؛ فمنها الطبقة القريبة التي تتكون فيها السحب، قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً" [الأنعام: 99]، ومنها جهة العلو، قال تعالى: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ... الآية" [البقرة: 144]، ومنها الجهة الرمزية التي تدل على سمو وجلال الله سبحانه: "أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ" [الملك: 16]،.. الخ.

  3. يجب أن نفرق بين المذنبات والشهب، فالمذنبات هي كتل من الجليد والغبار والصخور تجوب المجموعة الشمسية، إذا اقتربت من الشمس ظهر لها ذيل من الأبخرة والغبار. أما الشهب فهي مرحلة من مراحل النيازك، والنيازك هي كتل صخرية عندما تقترب من مجال الجاذبية للكوكب تسقط بسرعة شديدة مخترقة الغلاف الجوي وتشتعل بفعل الاحتكاك بالهواء، وهذه المرحلة هي مرحلة الشهاب، وقد يحترق الشهاب ويتلاشى أو يسقط على سطح الأرض.

ما هي السماء الدنيا؟

يقول الله تعالى في سورة الملك الآية 5 "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ"، والسماء الدنيا هي الغلاف الجوي، فهو الذي تحدث فيه ظاهرة الشهب، وأما المصابيح فهي الأجرام السماوية المضيئة من نجوم وكواكب. وبالطبع فالموجود في السماء الدنيا هو الزينة وليست النجوم والكواكب نفسها، فالغلاف الجوي يعطي المشهد السماوي زينته؛ في النهار يعطي السماء لونها الأزرق الجميل بفعل ظاهرة تندال، وفي الليل يعطي حيودا لأشعة النجوم والكواكب فتظهر لامعة ويحجب البقع المضيئة الصغيرة للنجوم البعيدة فتظهر صفحة السماء المظلمة تتلألأ فيها تلك الأجرام السماوية في مشهد بديع. لاحظ كيف تبدو كثافة النجوم خارج الغلاف الجوي حيث يفقد منظرها ذلك الجمال الذي نراه على الأرض. ومما يدل على أن المقصود هو وجود الزينة كمشهد وليس وجود المصابيح نفسها في السماء الدنيا ما نجده من خلال السياق في الآيتين السابقتين للآية 5 من سورة الملك، فهي تتحدث عن ما يراه الناظر: "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ".

الخلط بين الغيب والشهادة

من القصص التي يتندر بها الفلاسفة على النصارى جدالهم حول السؤال الشهير: كم عدد الملائكة الذين يمكنهم الرقص على رأس الدبوس؟ بل قيل إنهم كانوا يناقشون هذه المعضلة حين كان المسلمون يحاصرون القسطنطينية! وهذه إشكالية لا يقع فيها المسلم لأنه يفصل تماما بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فأخبار الغيب يأخذها من الوحي دون أن يخرج فيها عن دلالة النص، فلا يعتد بأي مصدر آخر في فهمه للغيبيات سوى نصوص الوحي (القرآن والسنة)، ولا يتحدث مثلا في حجم الجني أو وزنه أو طوله، لأنه ببساطة جزء من عالم غيبي لا يخضع لقوانين الفيزياء، بخلاف عالم الشهادة الذي يعتمد في استكشافه على الرصد والحس والتحليل. وفي الحالتين فالاستدلال العقلي هو أداته في الفهم.

والموجودات بكافة مظاهرها المادية لها جانبان، فيزيائي مشهود وآخر غيبي. فالكائنات التي نراها كلها لها جانب فيزيائي مشهود يخضع لأدواتنا وحواسنا، ولها جانب آخر غيبي نعلم به ولكننا لا ندرك كيفيته، فالكائنات التي نراها ونتعامل معها فيزيائيا هي أيضا نفس الكائنات التي تسبح لله، وتسبيحها غيبي لا ندرك كيفيته ولا يمكننا رصده. قال تعالى: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (الإسراء 44). والآيات عديدة في هذا المعنى.

فنحن ندرك جيدا الجانب المشهود من هذه الكائنات، ونحلل مكوناتها وسلوكها، ولكننا لا ندرك الجانب الغيبي منها.

ومثل ذلك ما ورد في سجود الشمس، فهو سجود غيبي وليس معناه أن الشمس تسجد على الأعضاء السبعة كما يسجد المسلمون في صلاتهم.

تحرير موضع الشبهة

وإذا ما عدنا إلى موضوعنا، فإن تلك الشهب هي أجرام يمكن رصدها ما دامت حواسنا تصل إليها، ولكن الشياطين كائنات غيبية لا يمكن رصدها، ولذلك فلا يصح أن نفهم الأمر وكأن رجم الشياطين بالشهب هو عملية فيزيائية يمكن من خلالها قياس أبعاد الشيطان وكتلته ثم حساب شدة ارتطام الشهاب به.. الخ. وإنما رجم الشياطين هو وظيفة غيبية لهذه الأجرام لا يمكننا تكييفه، لأنه ببساطة يقع على تلك الكائنات الغيبية غير الفيزيائية.

ولا شك أن تلك الشهب ظاهرة قديمة جدا، وإنما وظيفة رجم الشياطين هي وظيفة طارئة كما يتضح من الآية 9 من سورة الجن: "وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا". ولهذا فليس كل شهاب نراه فهو بالضرورة يرجم شيطانا.

وخلاصة القول أننا نؤمن بوقوع الرجم دون أن نخرجه من الحالة الغيبية، بالضبط كما نؤمن بأن الكائنات تسبح لله دون أن ندرك تسبيحها، وكما نؤمن بوجود الروح في الكائن الحي حيث لا تقوم الحياة إلا بها مع أنها غيبية لا نعلم حقيقتها ولا يمكننا رصدها أو رصد نشأتها في الجنين مع قدرتنا على رصده فيزيائيا.


شارك هذه الصفحة مع الناس، فواللهِ لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ.