(نقد وتفكيك)
من أشهر الاعتراضات التي يوردها الملاحدة على دليل القيم والمبادئ ما يسمى معضلة يوثيفرو Euthyphro، وهو رجل من اليونان نسبت إليه المعضلة، وقد كانت نتيجة حوار بينه وبين سقراط، وكان يرى أن مصدر الأخلاق يرجع إلى الإله، فقال له سقراط: هل الأخلاق حسنة لأن الله يريدها أم أن الله أرادها لأنها حسنة؟
فإن قلت بالأول - إن الأخلاق حسنه لأن الله أمر بها - فمعنى ذلك أن الأخلاق ليس لها معيار إلا إرادة الله فقط، وهذا يعني أن الأخلاق أمور وهمية لا حقيقة لها، وإنما مرجعها إلى ذات الله وإرادته، وذلك يصيّر الأخلاق أمورا ذاتية اعتبارية فقط لا وجود حقيقيا لها ولا قوانين لها، فإذا أمر الله بالقتل فإن القتل حينئذ سيكون أمرا حسنا، وإذا أراد الله أن ينهى عن الصدق والرحمة فستكون حينئذ أمورا قبيحة.
وإن قلت بالثاني - إن الله أمر بالأخلاق لأنها حسنة في ذاتها - فمعنى ذلك أن الأخلاق مستقلة عن ذات الله، وحاكمة على اختياراته وإرادته، وهذا يناقض تمام القدرة والعلم الإلهيتين، ويدل أيضا على أن الإله خاضع لمعانٍ أعلى منه وأقدم. ويدل أيضا على أننا لسنا في حاجة إلى الله ليكون مصدرا للأخلاق؛ لأنه يمكن لنا أن ندرك تلك المعايير التي كانت حاكمة على إرادة الله فنحكم بها، فلا يدل وجود الأخلاق إذن على ضرورة وجود الخالق.
وهذه المحاججة يمكن أن تطبق على قضية المعرفة، فيقال: لماذا كان الصواب صوابا؟ هل لأن الله أراد أن يكون صوابا؟ أم أراده الله لأنه صوابا في نفسه؟ ولماذا كانت الحقيقة حقيقة، هل لأن الله أراد أن تكون كذلك، أم أرادها الله لأنها كذلك؟ وقد فرح الملاحدة كثيرا بهذه الطريقة في الاستدلال وطفقوا يكررونها في كل محفل، ولا يكاد يذكر دليل القيم والمبادئ على وجود الله إلا ويذكرونها على سبيل المعارضة لذلك الدليل والإبطال له.
وهذه المحاججة لا يصح الاعتراض بها على الاستدلال بالقيم والمبادئ على وجود الله تعالى؛ لأنها مبنية على أغلاط متعددة في التصور عن الله تعالى وعن علاقته بالكون، ومتضمنة لعدد من المغالطات الحجاجية، فهي قائمة على التصور اليوناني عن الله تعالى وعن كماله، فلا يصح تعميمها على كل الأديان. ترجع أصول الأغلاط التصورية التي تقوم عليها تلك المحاججة إلى ثلاثة أغلاط أساسية:
الغلط الأول: أنها تقوم على تصور خاطئ عن علاقة الله بالموجودات، فالله تعالى هو الخالق لكل شيء في الموجود، سواء كان ذلك الشيء من الأمور العينية، كالجبال والشجر والبحار، أو من الأمور المعنوية، كمعنى الرحمة والرأفة وحسن الصدق وقبح الكذب ونحو ذلك، فلا يوجد شيء غير الله تعالى من الأعيان أو من المعايير والسنن إلا وهو مخلوق له سبحانه.
فالحسن والقبح والخير والشر والعدل والظلم كلها معانٍ داخلة في خلق الله تعالى، فلا يتصور أنها خارجة عنه، ولا وجود لها قبل أن يخلقها الله، فهو الذي خلق الصدق وجعله على هيئة الحُسن الذي هو عليه، وهو الذي خلق العدل وجعله على هيئة الحُسن الذي هو عليه، وهو الذي خلق الكذب والظلم وجعلهما على هيئة القبح الذي جعله في مخلوقاته.
وهو مع ذلك الذي خلق العقل الإنساني على هيئة يدرك بها حسن الأفعال الحسنة وقبح الأفعال القبيحة.
فكل هذه الأمور– أعني معنى الحسن والقبح والخير والشرك والأفعال المتضمنة بالحسن والقبح والخير والشر والعقل الإنساني المدرك للحسن والقبح والخير والشر- مخلوقة لله تعالى، وهو الذي صنعها وهيأها على هذه الحال، فلا شيء يخرج عن قدرته وإرادته وقبضته.
ولو أراد الله أن يغير شيئا من تلك الهيئات والأحوال لما استطاع أحد أن يمنعه، ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لكمال حكمته.
الغلط الثاني: أنها مبنية على الغفلة عن صفة الحكمة الإلهية، ومن أقام تلك المحاججة يتعامل مع الله وكأنه يخلق الأمور ويأمر بها بمحض الإرادة والقدرة فقط، ويُعرض عن صفة الحكمة، ولأجل هذا تصور أن الله يمكن أن يأمر بما هو شر محض، ويكون بذلك أمرا أخلاقيا.
والحقيقة أن ما اتصف الله به من كمال مطلق في الحكمة والعلم والقدرة والإرادة يمنع أن يأمر الله بما هو شر محض، ويعتقد المسلمون أن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما هو شر.
الغلط الثالث: أنها مبنية على الخلط بين معنى الخلق ومعنى الأمر، فالله تعالى خلق كل شيء في الوجود، حسنه وقبيحه، فلا يخرج شيء في الوجود عن خلقه سبحانه، ولكنه لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلا عما هو قبيح، فالأمر التكليفي أضيق من الخلق، ودائرة الخلق تشمل ما أمر الله به وما لم يأمر به.
ونتيجة لهذه الأغلاط التي تلبست بها تلك المحاججة أضحت قائمة على عدد من المغالطات المنطقية.
المغالطة الأولى: التصوير الزائف، وهي أن يصور المناظر المسألة التي وقع فيه الاختلاف بصورة غير الصورة التي هي عليها، ويطلب من المخالف لها أن يناقشها بناء على ذلك التصوير.
والمغالطة الثانية: الحصر المخادع، وهي أن يحصر المناظر الاحتمالات المتعلقة بالجواب على سؤال في عدد معين ثم يطلب من مناظره أن يختار منها احتمالا، ويكون الجواب الصحيح في احتمال آخر لم يذكره فيما حدده من احتمالات. فالمعتمد على تلك المحاججة أقام حجته على أن الله تعالى يمكن أن يفعل لمحض الإرادة من غير حكمة، وأن معيار الحسن والقبح خارج عن خلق الله وقدرته، ثم جعل الخيارات منحصرة في أمرين: إما أن يكون الله مريدا للأخلاق لأجل إرادته فقط وإما أنه أرادها لأنها حسنة!
وهذا الحصر للاحتمالات لا يصح أن يرد إلا في حالة أن يكون الفاعل ليس متصفا بالحكمة فهو يفعل الأمور لمحض المشيئة فقط، ولا يصح أن يرد أيضا إلا في حال أن تكون الأمور الموجودة في الواقع ثلاثة، هي الفاعل ومعيار الحسن والقبح والفعل المجرد، وكل واحد مستقل عن الآخر، حتى يمكن أن يتصور في العقل أن يختار الفاعل فعلا ما لأجل معيار معين خارج عن قدرته وإرادته.
وكل هذه الأمور غير ممكنة الوقوع في حق الله تعالى، فالله تعالى لا يفعل فعلا بغير حكمة إلهية، وأيضا فمعيار الحسن والقبح وكذلك الأفعال ليست أمورا مستقلة عن الله تعالى، حتى يقال: هل اختار الله الفعل الأخلاقي لكون حسنا أم لا؟ بل هو سبحانه الخالق لها والموجد لحقيقتها، فهو سبحانه أصلها وأساسها، والعقل الإنساني المدرك لها هو من خلق الله أيضا.
فلا يوجد في التصور العقلي إلا فرض واحد فقط، هو أن الله أمر بالأفعال الحسنة لأنه خلقها على هيئة حسنة ولأن حكمته لا تأمر إلا بما هو حسن، ونهى عن الأفعال القبيحة لأنه هيأها على هذه الهيئة وحكمته تقتضي ألا يأمر بما هو قبيح.
وبناء على هذا التوضيح فما ذكر في السؤال من حصر الاحتمالات خطأ، بل هناك احتمال ثالث هو المتفق مع طبيعة علاقة الله بالكون وطبيعة كماله سبحانه، وهو ما سبق بيانه.
فإن قيل: ما زال السؤال قائما، فلماذا جعل الله الحسن مقياسا للأخلاق الحسنة والقبح مقياسا للأخلاق القبيحة؟
قيل: هذا السؤال سفسطي لا قيمة له، ويمكن أن يورد على كل شيء في الوجود، فيقال: لماذا جعل الله الموجود موجودا والمعدوم معدوما؟ فعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان الموجود موجودا لأن الله أراد له ذلك، أم أن الله تعالى أراده كذلك لأنه موجود؟
ولماذا جعل الله الكبير كبيرا والصغير صغيرا؟ ولماذا جعل الكبير أكبر من الصغير؟ وعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان الكبير كبيرا لأن الله أراده كذلك أم أن الله أراده كذلك لأنه كبير؟
ولماذا جعل الله الأبيض أبيضا والأسود أسودا؟ فعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان الأبيض أبيضا لأن الله أراد أن يكون كذلك أم أن الله أراده لأنه أبيض في نفسه؟
ولماذا جعل الله العلم علما والجهل جهلا؟ فعلى أي معيار ميز الله بينهما؟ هل كان العلم علما لأن الله أراده كذلك أم أن الله أراده كذلك لأنه علم في نفسه؟ وكل هذه الأسئلة عند التأمل فيها هي من قبيل السفسطة والاعتراضات التي لا تقوم على أسس صحيحة.
والجواب المستقيم عليها جميعا أن يقال: كانت تلك الأمور وغيرها كذلك لأن الله تعالى يتصف بالكمال المطلق، فخلق الخلق بمعاييره وقوانينه وسننه ومشاهده على هذه الهيئة التي نعلمها لتحقق المصالح والحكم التي يريدها الله تعالى، وقد نعلم نحن البشر تلك المصالح وقد لا نعملها، ولو شاء الله تعالى أن يخلق الخلق على هيئة أخرى تقوم على قوانين ومعايير وسنن أخرى لفعل سبحانه.
د. سلطان العميري
تابع قناة الدكتور العميري على تليجرام