الأدلة العقلية على وجود الله

من المهم جدا لكل أحد معرفة أن الإيمان بوجود الله ليس مجرد قضية تسليمية عاطفية، وليس قائما على مجرد عجز المخالف عن إقامة الدليل على النقيض، وإنما هو قضية تصديقية استدلالية برهانية صادقة. ولذلك نجد أن من أقوى الأدلة العقلية الدالة على وجود الله سبحانه دليلين هما: دليل الخلق والإيجاد، ودليل الإحكام والإتقان.

أولا: دليل الخلق والإيجاد

المقصود به الاستدلال على ضرورة وجود الله بحدوث الكون بجميع مكوناته وأحداثه؛ فالكون حدث من الأحداث وفعل من الأفعال لا بد له من مُحدث وفاعل يقوم بإحداثه وفعله وإيجاده من العدم، فكل شيء يحدث بعد أن لم يكن فإنه يجب أن يكون له سبب وفاعل، وهذا الاستدلال (أن كل فعل لا بد له من فاعل) استدلال عقلي يقيني لا يختلف فيه أصحاب الفطرة الإنسانية السليمة. ويقوم دليل الخلق والإيجاد على مقدمتين أساسيتين هما: أن الكون حادث غير قديم وأن الحادث لا بد له من مُحدث. وفيما يلي شرح للمقدمتين..

المقدمة الأولى: الكون حادث غير قديم

المراد بها أن الكون الذي نشهده ونعلمه له بداية في وجوده، فقد كان معدوما ثم انتقل من العدم إلى الوجود. وهذا الدليل ثابت من جهتين، من جهة العقل ومن جهة العلم. أما من جهة العقل فيكفينا فيه أن نذكر في ذلك كلام ابن حزم رحمه الله حيث قال: "لو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن لها ثان، ولكننا نشهد في العالم حوادث متعددة ومتعاقبة، يحدث الثاني فيها بعد الأول، والثالث بعد الثاني، وهذا دليل ظاهر على أن العالم ليس قديما". فالجزء دليل على الكل، وما كان في أجزائه له بداية ونهاية فإنه يدلنا ضرورة أن هذا الكل– الذي يحوي هذه الأجزاء التي هذه صفتها- له بداية وستكون له نهاية بالتأكيد.

بعد أن علمنا بدلالة العقل المبني على دلالة الحس الضرورية أن الكون حادث، نزيد هذا الدليل قوة بما يؤكد على هذه الدلالة من خلال العلم التجريبي في اكتشافاته المتأخرة. فمن العلماء المؤمنين الذين أكدوا على هذه الحقيقة العالم الفيزيائي المعاصر بول ديفيز حيث يقول: "أهم اكتشاف علمي في عصرنا هذا هو أن الكون المادي لم يكن موجودا أبدا"، وأما من العلماء الملحدين فنذكر قول العالم الفيزيائي المعاصر ستيفن هوكنج: "ومع تراكم الدليل التجريبي والنظري أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن الكون لا بد له من بداية في الزمان، حتى تمت البرهنة على ذلك نهائيا في 1970".

ومن أهم الشواهد العلمية التي يعتمد عليها العلماء في إثبات حدوث الكون قانون الديناميك الثاني، الذي يعني أن الطاقة الحرارية تنتقل من الأجسام الحارة إلى الأجسام الأقل منها حرارة، ولا يمكن أن يحدث العكس. ومعنى هذا أن الكون سيصل إلى نقطة تتساوى فيها حرارة مكوناته، وما دامت الحرارة لم تتساو بين مكوناته بعد فهذا يدل على وجود البداية.

ومن الشواهد العلمية على حدوث الكون أيضا نظرية الانفجار العظيم وثبوت اتساع الكون، وهي تشير إلى أن العالم قد خرج إلى الوجود نتيجة انفجار كبير منذ ما يقارب 15 ألف مليون سنة. أي أنه كان عدما من قبل ثم ترجح وجوده على عدمه، ولا يترجح شيء على شيء بدون مرجح.

وقد أثبت هذان الدليلان بما لا يدع مجالا للشك عند أي عالم من العلماء - مؤمنا كان أم ملحدًا - بأن الكون حادث من العدم بعد أن لم يكن.

المقدمة الثانية: الحادث لا بد له من مُحدث

المراد بها أن أي فعل يحدث في الوجود لا بد له من فاعل يقوم به ويؤثر في وجوده، لأنه يستحيل في المعدوم أن يُحدث نفسه أو أن يقع بغير فاعل. ومبدأ السببية هذا مبدأ عقلي ضروري من أوضح القوانين العقلية البديهية التي يخضع لها البشر في تعاملاتهم الحياتية، كالعلم بأن الجزء أقل من الكل.

فإذا كان لابد أنه حادث بفعل فاعل، فمن هو هذا الفاعل؟ والجواب لا يخرج عن خيارين:

  • إما أن الكون قد أوجد نفسه بنفسه، وهذا مستحيل لثلاثة أمور:
  • يلزم من ذلك تقدم الكون على نفسه ومن المستحيل وجود الفعل قبل الفاعل.
  • فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه لنفسه ولا لغيره.
  • لأن الشيء الممكن (المخلوق) في حال عدمه يتساوى في حقه الوجود والعدم، وترجيح أحد الاحتمالين لا بد له من مرجح.
  • وإما أن يكون قد أوجد الكون فاعل غيره خارج عن ذاته، وهذا أيضا لا يمكن أن يخرج عن احتمالين:
  • أن يكون وجود ذلك الفاعل مسبوقا بالعدم، وهذا يُقال فيه ما قيل في الخيار الأول من الأمور الثلاثة السابقة ويُضاف إلى ذلك أنه يلزم منه التسلسل في الفاعلين المؤثرين وهذا أمر ممتنع في بداهة العقل، ويؤدي بالضرورة إلى عدم حدوث شيء في الواقع، وإذا وجدنا أحداثا في الوجود علمنا استحالة التسلسل في الفاعلين.
  • أن حدوث الكون وانتقاله من العدم إلى الوجود لا يمكن إلا أن يكون بفعل فاعل لا فاعل قبله.

والاحتمال الأخير هو الاحتمال الممكن الوحيد، فنصل من كل ما سبق أن المؤمن بوجود الخالق لا يتوسل بالمجهول على إثبات إيمانه، وإنما يعتمد على المبادئ العقلية الضرورية لإثبات ذلك.

ثانيا: دليل الإحكام والإتقان

يُستدل بهذا الدليل على ضرورة وجود الله سبحانه بما في العالم من الإتقان في الخلقة والإحكام في تفاصيله الدقيقة المذهلة، ولتحقق ذلك لا بد من فاعل يتصف بالقدرة والحكمة وسعة العلم. وهذا الدليل يسميه العلماء التجريبيون "دليل التصميم"، وهو ما تقوم عليه نظرية التصميم الذكي.

يقوم دليل الإحكام والإتقان على مقدمتين أساسيتين: أن الكون متقن ومحكم في خلقته، وأن الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل حكيم عليم. وفيما يلي الشرح.

المقدمة الأولى: الكون متقن ومحكم في خلقته

المراد بها أن الكون رُكّب بصورة معقدة جدا لا يمكن اختزالها إلى أسباب راجعة إلى الكون نفسه أو إلى الصدفة، وأن أحداثه وأجزاءه شُكلت في مسارات دقيقة بحيث أن كل جزء منه يؤدي وظيفة دقيقة خاصة به، وقُدرت مكوناته بمقادير دقيقة بحيث أن أي زيادة أو نقصان يؤدي إلى اختلافات كبيرة تؤول إلى فساد الكون كله.

والأدلة والشواهد الدالة على صحة هذه المقدمة تنقسم إلى نوعين أساسيين:

الدليل الحسي المباشر: فكل عاقل يشاهد أصنافا متنوعة من الإتقان في الوجود يعلم ويسلّم بالضرورة وجود متقن لها.

الدليل العلمي التجريبي: فإن الإقرار به ليس خاصا بالعلماء المؤمنين بل أقر به أيضا أكثر العلماء الملاحدة. فيقول (أنتوني فلو)، الذي كان من أعتى ملاحدة العصر الحديث: "لا شك أن ما كشفه العلم الحديث من معلومات هائلة في مجال قوانين الطبيعة ونشأة الكون، وكذلك نشأة الحياة وتنوع الكائنات الحية، قد أمد هذا البرهان بالكثير من الأدلة التي أعانتني كثيرا في الوصول إلى هذا الاستنتاج" أي الإقرار بوجود إله. ويقول (إيريك هاودن): "عندما تنظر إلى مبنى لن تستغرب أن هناك من بناه، وعندما تنظر إلى لوحة لن تستغرب أن هناك من رسمها، فلماذا تسأل عن الخالق عندما تنظر حولك؟" أي لماذا تتساءل عن وجود الخالق وأنت ترى هذا الإبداع المصمم بدقة في كل شيء حولك في الكون؟

المقدمة الثانية: الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل

أي أن مشاهد الإتقان في الوجود يتعذر أن تقع بغير فاعل عالم مريد مختار حكيم قادر يقوم بتصميمها وتقديرها لاحتوائها على تفاصيل معقدة ومتداخلة ومذهلة. ويدل على صحة هذه المقدمة وضرورتها أمران:

الضرورة العقلية: فالعقل بفطرته السليمة يدل على أن الفعل لا بد له من فاعل، بل الإتقان ليس مجرد فعل بل هو فعل مخصوص بحالة تركيبية خاصة تتطلب أن يكون فاعله متصف بصفات كمالية عالية متناسبة مع حالة ذلك الفعل.

الضرورة الرياضية: وهي تدل على ذلك وتثبت بطلان الاحتمالات الأخرى كالحدوث بالصدفة المفاجئة أو التطور طويل الأمد، ومن أظهر الأمثلة على ذلك تكون البروتين، فقد أثبت العالم السويسري تشارلز يوجين من خلال حسابه للعوامل التي يمكن من خلالها تكوّن بروتين واحد بالصدفة أنه يتطلب نسبة 1 إلى 10 أُس 160، وهذا رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه، وهو عند علماء الرياضيات يساوي صفرا، لأن أعلى نسبة للاحتمال عندهم هو 1 إلى 10 أُس 150، واكتشف أن كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة أكثر مما يتسع له هذا الكون بملايين المرات ويتطلب بلايين السنين لتكونه.

إذن دليل الإتقان لا يتضمن فقط الإقرار بوجود خالق بل يتضمن كذلك اتصافه بصفات العلم والإرادة والحكمة.

د. سلطان العميري

تابع قناة الدكتور العميري على تليجرام


شارك هذه الصفحة مع الناس، فواللهِ لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ.