يقول: أدعو الله كثيرا ولكن لا يستجاب لي.. والمسلمون يدعون على اليهود المحتلين منذ سنين عديدة ولكنهم لا زالوا هناك..
يخطئ من يظن أن الاستجابة هي فقط وقوع ما طلبه المسلم في الدعاء، وإنما الصحيح هو أن الاستجابة ثلاثة أنواع: إما أن يقع ما دعى به المسلم، وإما أن تكون دعوته ثوابا له في الآخرة، وإما أن يصرف الله عنه من السوء مثلها.
ففهم الاستجابة على أنها فقط تحقيق الطلب المذكور في الدعاء هو فهم سطحي، إذ أنه أحيانا يستحيل وقوع المطلوب في الدعاء نظرا لوجود التناقض، فمثلا قد يدعو مسلمان دعائين متناقضين؛ كأن يطلب كل منهما تملك الشيء نفسه، والأمثلة كثيرة على التناقض في الأدعية، وهنا لا يمكن أن يتحقق لكليهما ما طلباه، وإنما بالتأكيد يستجاب لكل منهما بأحد وجوه الاستجابة المذكورة.
من ناحية أخرى فإن المسلم يدعو بما يريده مجتهدا، ولكن علمه وحكمته قاصرة ونسبية وليست كعلم الله المطلق وحكمته الكاملة البالغة، فالله يقدر له الخير وإن كان خلافا لما طلبه في دعائه ويستجيب له بوجه آخر من وجوه الاستجابة.
ولو أن الملحد الذي يطرح هذا السؤال يقرأ ويطلع على النصوص لعلم أن الجواب موجود ويعرفه أكثر المسلمين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلا أَعْطَاهُ الله بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: "الله أَكْثَرُ." رواه أحمد، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (حسن صحيح).
دعنا الآن نسير على الفهم القاصر الذي يقيد الإجابة بتحقق المطلوب.. فلا يصح أن ينكر وجود الله بسبب حجة جمعت إلى كونها عاطفية أنها حجة شخصية غير موضوعية! كيف ذلك؟
أما كونها عاطفية، فلأنها انفعال عقابي وليست تأسيسًا عقلانيا لنفي وجود رب العالمين؛ أنت دعوت الله ولم يستجب لك، لقد رفضك- على هذا الافتراض- فما دخل هذا بوجوده؟ لو أثبتت الأدلة العقلانية وجوده، فاستجابته لدعائك وعدم استجابته ليس شيئًا مؤثرًا في قضية وجوده، أليس كذلك؟
أما كونها شخصية، فلأنها ببساطة يمكن الرد عليها كالتالي: "وأنا دعوتُ الله تعالى وكم استجاب لي!" فهل هذا كفيل بإنهاء المسألة؟ لقد قلتَ إنك دعوتَه ولم يستجب، وأنا دعوتُه فاستجاب، وكما هو معلوم فإن "المثبت مقدّم على النافي" وهنا ينتهي الأمر. لقد دعوتُه وتيقنتُ تمامًا أنه موجود- لو كانت حجتك تلك صحيحة! تأمل هذه القصة الواقعية ثم عد لإكمال القراءة.
فأعيذك بالله الحق، أن تؤسس إيمانك أو عدم إيمانك على حجة عاطفية لا تثبت للمنطق العقلاني، ثم هي تجربة شخصية لا يسلم لك فيها كثير ممن استجاب الله دعائهم!
تعرف الطفل الصغير عندما يصيبه الهلع من ذكر شكة الحقنة؟ لماذا يصيبه هذا الهلع؟ لأنه ببساطة لا يفهم ثنائية الصحة والمرض، والراحة والألم، إنه يفكر في "الآن" و "هنا".. بالنسبة له، ملامسة الحقنة لجلده هي أقسى ألم من الممكن تذوقه لطفل صغير!
مرارة الدواء الذي تعطيه له أمه باستمرار تمثل له حالة من الألم غير المبرر ولا المفهوم! لماذا يفعلون بي هذا؟ لماذا يعذبونني كل هذا العذاب؟ أهلي أشرار سيئون! هذا هو ما ينحصر فيه تفكيره وقتها!
لكن الأمر لا يقتصر على الأطفال عندما يتعلق الأمر بالله، نحن تمامًا لا نفهم ثنائية الألم والراحة أيضًا إذا ما تعلق الأمر بالبلاء! نكفر بالله فور أن يصيبنا قدر مؤلم من أقداره! كالطفل الصغير ينكر فضل والديه يوم أن يمسكاه للطبيب ليعطيه الحقنة! أو يضعان له الدواء شديد المرارة في فمه الصغير!
لكن الفارق هو أن الطفل ينمو ليفهم أن للمرض ألما أشد من ألم الدواء، ويفهم أن الصحة ليست شيئًا مسلمًا به، بل الإنسان يمرض عادة وهو أضعف من أن يظل صحيحًا طول الوقت، ولذا يتجرع مرارة الدواء وقلبه بارد بها، بل يطلبه، ويبذل فيه أمواله! لقد بدأ يفهم!
لكننا لا نفهم أحيانًا، ونصر أن الله ابتلانا ليعذبنا، وفي الحكمة: "يا مسكين! ما ابتلاك ليعذبك، ولكن ليهذبك!" نفهم ثنائية المرض والصحة تمامًا، ولكن لا نفهم ثنائية البلاء والثواب! ننظر تحت أعيننا، حرفيًا "هنا" و"الآن"، نريد كل شيء هنا، في الحياة الدنيا، والله يقول: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب! هناك حيث لا ميزان إلا الأعمال، تجد كفة سيئاتك تطيش! فتسأل، فيقال لك: ابتليت بكذا فصبرت! تعبت في حياتك فجوزيت! فرحة كاملة في دار الخلود! ولكنكم تستعجلون!
وفي الحديث "ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ.".
لو فهمنا حقًا ثنائية البلاء والثواب، لكنّا أكثر صبرًا كما نصبر على الدواء، ولكنا أكثر قربًا من الله الذي يهبنا كل هذه الحسنات بشيء لم نطلبه، بل فقط ابتلينا به رغمًا عنّا! ولكن: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى". ما أحمق الإنسان!