الكلالة[1] هي وصف يختص بحالة من حالات الميراث حين يكون المتوفى ليس له ورثة من جهة الأولاد ولا ورثة من جهة الأبوين وله إخوة أو أخوات، فيكون الميراث لهم بحسب الآيتين 12 و 176 من سورة النساء:
الآية 12 من سورة النساء:
"وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ".
الآية 176 من سورة النساء:
"يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".
ومن المعلوم أن الآية 176 نزلت قبل الآية 12، وقد نزلت جوابا على استفتاء جابر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في سنن أبي داوود عن جابر:
"اشتكيت وعندي سبع أخوات، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن. قلت: الشطر. قال: أحسن. ثم خرج وتركني. فقال: يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل، فبيّن الذي لأخواتك، فجعل لهن الثلثين". فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية فيّ "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة".
وحصص الورثة في الآيتين مختلفة (لاحظ النص المميز بالأحمر)، وقد اتفق الصحابة والفقهاء والمفسرون على أن المقصود بالأخ والأخت في الآية 12 هو الأخ والأخت من الأم، بخلاف الآية 176 التي يقصد بها الأشقاء أو الإخوة لأب، وهذه الآية (176) لا إشكال فيها عند المتشككين لوضوح سبب النزول وإقراره على حديث جابر.
وسنتعرض هنا لشبهتين يدور حولها المتشككون في هاتين الآيتين:
كيف يمكن القول بأن المقصود بميراث الكلالة في الآية 12 هو الإخوة لأم دون أن يكون هناك شاهد من القرآن أو الحديث؟
ما يدور في ذهن الملحد المشكك في النص القرآني هو أن الآيتين متناقضتان، فهو يرى أن العلماء احتالوا لدفع هذا الاختلاف في الحصص بين الآيتين بادعاء الاختلاف بين حالتي الورثة في الآيتين من دون شاهد صريح مباشر من النص القرآني أو السنة.
لكن الواقع هو أن الصحابة وعلماء الأمة لم تخطر لهم شبهة التناقض أصلا لأنهم لا ينطلقون في فهم النصوص من منطلق الشك في صحتها كما يفعل الملاحدة والمتشككون، وإنما يأخذون بها على أساس عصمتها من الخطأ، ولا شك أن هذه النصوص- وخصوصا التشريعية منها- موجهة إليهم أصلا على هذا الأساس، بينما نجد أن النصوص القرآنية الموجهة إلى غير المسلمين تراعي طبيعة النفس الميالة إلى الشك في صحة النص، فيكون فيها حسم وتحقيق وتكرار يعالج هذا الشك. لاحظ مثلا تكرار التأكيد على على نفي القتل والصلب عن المسيح عليه السلام سبع مرات في آيتين: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ (وَمَا قَتَلُوهُ) (وَمَا صَلَبُوهُ) (وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ) (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ) (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا". مريم 157-158
وعلى أية حال فإن القول بأن ميراث الكلالة في الآية 12 من سورة النساء يخص الإخوة لأم يقوم على عدة وجوه تبدأ من نصوص القرآن والسنة وتؤول إليها:
نزلت الآية 176 ردا على استفتاء جابر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي في نفس الوقت حكم عام، فلما نزلت الآية الأخرى 12 كان لابد أن تكون مخصصة لحالات استثنائية، والحالات العادية للأخوين هي كونهما أشقاء، وأما الحالات الاستثنائية لهما فهي كونهما غير أشقاء. وفي حالة الإخوة غير الأشقاء يفترض أن يدور السياق حول هذه الحالة، ولذلك نرى في بداية السياق للآية 12 قوله تعالى "وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ... الآية"، فالسياق هنا يتحدث عن الأزواج ووجود أبنائهم وبناتهم وكذلك الزوجات، أي أن السياق يتحدث عن الأسر التي يحتمل أن يكون فيها عادة إخوة وأخوات غير أشقاء. وهذا شاهد قوي في نص الآية بخلاف الآية 176 حيث لا تشير أصلا إلى الأزواج والزوجات.
الشاهد الآخر من النص هو ذكره سبحانه وتعالى للضرار بقوله "غير مضار"، بخلاف الآية 176 حيث لم يذكر الضرار فيها. وكما يقول ابن القيم في "إعلام الموقعين" ص356: "ولهذا قال في آية الإخوة من الأم والزوجين "غير مضار" ولم يقل ذلك في آية العمودين، فإن الإنسان كثيرا ما يقصد ضرار الزوج وولد الأم لأنهم ليسوا من عصبته بخلاف أولاده وآبائه فإنه لا يضارهم في العادة".
وهناك شاهد آخر من النص، وهو أنه لو كان المراد من الآية 12 هو الأخ والأخت الشقيقين أو الأخ والأخت للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب. ولا شك أن جزءا كبيرا من فهم الصحابة لاختصاص تلك الآية بالأخ والأخت من الأم يعود إلى فهمهم للآية السابقة لها في النزول 176 حيث ذكرت أن للأختين الثلثين، ففهموا المراد.
ما أورده بعض المفسرين حول ما نقل عن سعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وابن مسعود من إشارتهم بعد قوله تعالى "وله أخ أو أخت" فذكروا "من أم" أو "من الأم"، وهي تفسير وبيان وإن ظنه بعض من نقل عنهم أنه قراءة، وهذا ما أشار إليه ابن القيم في "إعلام الموقعين" بقوله "وهو تفسير زيادة وإيضاح".
وأشار إلى ذلك أيضا محمد رشيد رضا في تفسير المنار بقوله:
"وعندي أن هذا ليس قراءة وإنما هو تفسير سمعه بعض الناس منهما فظنوا أن كلمة (من الأم) قراءة وإنهما يعدانها من القرآن. وأرى أن كل ما روي من الزيادة على القرآن المتواتر في قراءة بعض الصحابة قد ذكر على أنه تفسير، فإن لم يكن الصحابي هو الذي قصد التفسير بذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي تلقى ذلك الصحابي عنه هو الذي قصد التفسير فظن الصحابي أنه يريد القرآن. والدليل على ذلك القراءة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم الخالية من هذه الزيادة، ولا دخل هاهنا للفظ الراوي في الترجيح لأنهم يروون الأحاديث بالمعنى."
روى ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: "ألا إن الآية التي أنزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، مما جرت الرحم من العصبة".
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: "قضى عمر بن الخطاب أن ميراث الإخوة من الأم بينهم الذكر فيه مثل الأنثى. قال: ولا أرى عمر بن الخطاب قضى بذلك حتى علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم."
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده في عدة نصوص، ونص في بعضها على أبي بكر وعمر، ويمكن التحقق منها ومن صحتها على هذا الرابط.
وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل، وهو لماذا لم يرد في السنة تطبيقا لهذه الآية 12 على الواقع؟ والجواب هو أن الكلالة للأخت أو الأخ من الأم هي من الحالات نادرة الوقوع، والنادر يقل احتمال وقوعه بقلة الناس ويزيد بكثرتهم، ومعلوم أن عدد المسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان قليلا نسبيا عنه في العقود اللاحقة.
والإجماع عند أهل السنة هو أحد مصادر التشريع الأربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. ويمكن الرجوع إلى الأدلة التي تقوم عليها حجية الإجماع والتفصيل فيها، ومن أهمها قوله تعالى: "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" (النساء 115)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" (صحيح أبي داود، وصححه الألباني)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" (صحيح مسلم).
وعلى ذلك فلا يصح عندما يأمرنا الله سبحانه بقبول إجماع المؤمنين وعدم الحيدة عن سبيل جماعتهم، ثم يحصل إجماعهم على أمر من أمور الفقه أو الأحكام، أن نتردد في قبوله، فما بالك في مثل هذا الأمر الذي أجمع عليه الصحابة وأتباعهم والأمة بلا خلاف، بل هو إجماع على الإجماع؛ أي أن كافة كتب التفسير المعتبرة أجمعت على إجماع الأمة على هذا الفهم.
في قوله تعالى: "وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ... الآية"، كيف قال "له" ولم يقل: "لهما" مع أن الكلام عن رجل أو امرأة؟
إن من شأن العرب أنها إذا قدمت ذكر اسمين قبل الخبر وعطفت أحدهما على الآخر بـ "أو" وكانا في الحكم سواء، ثم أتت بالخبر، أضافت الخبر إليهما أحيانا وإلى أحدهما أحيانا أخرى. فإذا أضافته إلى أحدهما كان سواء عندها إضافة ذلك إلى أي الاسمين الواردين. فتقول: "من كان عنده غلام أو جارية فليحسن إليه" أي إلى الغلام، أو "فليحسن إليها" أي الجارية، أو "فليحسن إليهما" معا. وتقول أيضا: "من كان له أخ أو أخت فليصله" أو "فليصلها" أو "فليصلهما". فهذا كله جائز وصحيح عند العرب.
وفي ذلك قال النحاة: إذا تقدم مذكر ومؤنث متعاطفان بـ (أو)، فأنت بين أن تراعي المتقدم أو المتأخر، فتقول: زيدٌ أو هندُ قامَ، أو تقول: قامت.
وذكر أبُو البَقَاءِ عن تذكير "له" ثلاثة أوجه: أحدها أنه يعود على الرجل وهو مذكر مبدوء به، والثاني أنه يعود على أحدهما، ولفظ "أحد" مفرد مذكر، والثالث أنه يعود على الميت أو الموروث لتقدم ما يدل عليه.
وقد ورد في القرآن الكريم: "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ" (البقرة 45)، ولم يقل "وإنهما".
قد يدور في ذهنك تساؤل: كيف يكون الاستدلال في رفع هذه الشبهة بنصوص من القرآن والسنة وأقوال الصحابة في حين أن الملحد الذي يثيرها لا يؤمن بالله أصلا ومن باب أولى لا يؤمن بتلك النصوص كلها؟
والجواب هو أن هدف الملحد هو تشكيك المسلم بالنص القرآني، وليس القصد إثبات أو نفي عقيدة الإلحاد. ولهذا فإن الردود هنا موجهة للمسلم المتشكك لرفع الشبهة عنه وليس موجهة للملحد.
الهوامش
[1]: هناك رأيان رئيسان حول الأصل اللغوي للتسمية، الأول هو أن "الكلالة" من "كلّ"، وهي كناية عن الضعف، والمقصود به ضعف الموروث حيث لا والد له ولا ولد. وأما الرأي الآخر فهو ينسب التسمية إلى "الإكليل" وهو التاج، والشبه هنا هو أن التاج يحيط بالرأس كما يحيط الإخوة بالموروث، فلا والد من الأعلى ولا ولد من الأسفل.