أديان كثيرة جدا ومعبودات بالآلاف والعُمر قصير.. هل العمر يكفي لفحص كل تلك الديانات؟
هذه الشبهة رائجة بين الملحدين، رغم أن الوصول إلى الحق يتطلب نصف ساعة فقط من البحث وإعمـال العقل!
أولا: يوجد على الأرض ثلاث ديانات- إسلام ويهودية ومسيحية- يُشكل أتباعها أكثر من 85 % من سكان الأرض، وأما بقية الديانات فهي وضعية لا حاجة حتى للرد عليها، لأنها تعترف ببشريتها، وهي في طريقها للانقراض، وأتباعها يُصنفون في مراكز الأبحاث العلمية أنهم مُلحدون أو روحيون بلا دين. إذن محك الجدال هو في الديانات الثلاث الكبرى فقط. اليهودية أقرت أنها ديانة قومية لا يدخلها إلا يهودي الأبوين، ولهذا فأمرها محسوم باعترافها هي، فهي لا تقبلك أصلا.
أما المسيحية فقد أدخلت التثليث والأقانيم والآلهة البشرية في قلب عقيدتها ولم يقل المسيح يوما أنا الله أو اعبدوني أو أنا لاهوت وناسوت ولكن أتباعها أصروا على صورتها الوثنية المعاصرة. فمثلا.. كلمة "تثليث" لم ترِد في الكتاب المقدس ولو مرة واحدة مع أنها أصل المسيحية، وبذلك تحولت المسيحية من ديانة سماوية إلى ديانة وضعية وثنية.
وفكرة الأقنوم تدور في إطار تعدد الآلهة مع محاولة الحفاظ على نسق التوحيد الفطري، فيقولون "ثلاثة في واحد"! أقنوم الابن الإله الكامل.. وأقنوم الآب الإله الكامل.. وأقنوم الروح القدس الإله الكامل.. ومع ذلك لا يجوز أن يكون الابن هو الآب بل كل إله مستقل تماما عن الآخر.. لكن هؤلاء الآلهة الثلاث إله واحد! وهذه بالبديهة وثنية صريحة وتحدٍّ لبديهيات العقل بسفسطة عقيمة.
ومع ذلك كل هذه الأفكار الوثنية يخلو منها الكتاب المقدس تماما.. إذن المسيحية انتقلت من السماوية إلى الوضعية الوثنية على يد مجامع صناعة الآلهة في عهد قسطنطين.
الإسلام ليس فِرقة من الفرق ولا عقيدة من بين عقائد الأرض حتى يوضع في مجال مُقارنة مع باقي الديانات.. بل هو أصل الأديان والعقائد والعبادات، وهو أنقى أديان التوحيد كما يقول جوستاف لوبون.
فالإسلام هو تصحيح لمسار الديانات التي انحرفت وإعادة لنهج أنبياء العهد القديم من آدم إلى نوح وصالح وأيوب وهود وإبراهيم وموسى وداوود ويونس وهارون وعيسى.. فعقيدة هؤلاء جميعا هي عقيدة الرب إلهنا رب واحد بلفظ التوارة والإنجيل.. هذه العقيدة التي لا تعرف تثليثا ولا أقانيم ولا موت آلهة منتحرة ولا انتزاع آلهة من آلهة أخرى- انتزاع الروح القدس من الآب- ولا آلهة قومية.
يقول الله تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ" [الشورى:13] ويقول تعالى: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً" [النساء:163]
إذن فالإسلام ليس ديانة كبقية الديانات، وإنما هو أصل الديانات وتصحيح للخلل الذي أصاب تلك الديانات وبالأخص اليهودية والمسيحية في نسختيهما العهد القديم والجديد.
الإسلام أكثر أديان الأرض انتشارا.. وأكبر ست دول مسلمة في العالم غير عربية. ويُشكل المسلمون العرب قرابة 19% فقط من المسلمين على وجه الأرض.. ولا تخلو مدينة على وجه الأرض من مسلمين أو من مسجد! فالإسلام قامت به الحجة على أنه الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده.
وهذا بالطبع ليس استدلالا على صحة الإسلام، فالاستدلال بالكثرة مغالطة منطقية، ولكن المقصود هنا هو المقارنة مع بقية الديانات عندما يطرح الملحد الأمر وكأن كل تلك الديانات مثل بعضها.
ومشكلة الملحد هي أنه يربط بين الديانات الوثنية الغارقة في الجهالة وبين الديانة الإسلامية التوحيدية النقية حتى يخرج من هذا الخلط بأن الجميع باطل فيشعر براحة بال واستقرار ضمير على إلحاده، ولو كانت هذه الراحة وذلك الاستقرار مزيفين.
ولكن قد يقول الملحد إن هناك 73 فِرقة في الإسلام، وهذا كلام صحيح، والرد عليه من وجهين:
إن انقسام المسلمين إلى 73 فِرقة دليل نبوة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك في الوقت الذي كان الإسلام في بدايته، وكانوا يُقتلون ويُحرقون على رمال الصحراء دون أن يردهم ذلك أو يُفرق جماعتهم.
أن أهل السنة والجماعة يشكلون من مجموع المسلمين ما نسبته 91% والشيعة 8% و1% فِرق أُخرى. وبداية الفَرق بين السُنة والشيعة هو اختلاف في حب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أول الخلاف بعيدا عن سياسة الصفويين وأحقاد المجوس.
إذن الافتراق إلى 73 فِرقة لا يعني أن حجم كل فرقة 1.3 % من المسلمين، فهذا جهل واضح بالواقع.. والصورة الواقعية للافتراق هي 91% أهل سُنة وجماعة والشيعة 8% و1% فِرق أُخرى.. ولا فرق بين السنة والشيعة في أصل العقائد إلا ما أدخله ساسة الصفوية على التشيع.
أما بخصوص غير المسلمين فإن الله لن يظلم عباده.. قال الله تعالى: "وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ" [آل عمران:108] ويقول تعالى: "وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" [فصلت:46] ويقول: "وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" [الإسراء:15].
الذين لم تُقم عليهم الحُجة في الدنيا ستُقام عليهم يوم القيامة، ويوم القيامة يوم طويل.. فلا ينزعج الملحد ولا يقلق إلا على نفسه!
نقول للملحد الذي يستخدم حُجة تعدد الديانات ليُلحد: هل كفر غيرك يبرر كُفرك؟ هذا ما فعله فرعون من قبل عندما قال لموسى: يا موسى لن أؤمن لك لأن الكفار موجودون منذ القِدم.. "قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى" [طه:51]. هذه حجة بكماء عمياء، لكنها تنطلي على كثيرين!
مشكلة الملحد أو الربوبي أنه يفرح بموضوع كثرة الديانات ويتخذ الأمر ذريعة لكُفره وقلة أدبه مع خالقه ورازقـه، ثم يتخذ الأمر ذريعة لترك البحث في مُقتضى وجوده، ويظن أنه بذلك استطاع أن يجد مبررا للهروب بشنيعة كفره.
وقد يقول الملحد: ما المانع أن يكون أحد آلهة تلك الديانات الوثنية الأرضية الوضعية البدائية هو الإله الحقيقي؟
وهذا خطأ فاضح؛ فلا يوجد معبود في جميع ديانات الأرض إلا الله.. وخلافنـا مع بقية الأديـان ليس لأنهم لا يعبدون الله ولكن لأنهم جعلوا لله شركاء في الدعـاء والطلب والتصرف في الكون؛ فجميع أديـان الأرض تعبد الله، وهو عندهـا الخالق العظيم.. وحتى أكثر الديانات إغراقا في الوثنيـة إنما جعلوا له شركـاء متشاكسين نسبوهم للخالق واعتبروهم أدنى منه منزلة (آلهة صغيرة - Subordinationism).
ففي الكعبة مثلا، ذلك المكان الصغير، كان يوجد ثلاثمائة وستون صنما هُدمت كلها يوم فتح مكة.. لكن هذه الأصنام كانت تُتخذ وسائط متعددة لإله واحد. قال القرآن على لسانهم "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى" [الزمر:3]. أي لا يعبدونهم إلا تقربا وواسطة إلى الله. وقد ألغى الله الواسطة بينه وبين خلقه على لسان جميع أنبيائه.. ولذا يقول تعالى "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" [لقمان:25].
يقول الشهرستاني عن أوثان العرب قديما: أما الأصنام فلم يكن العرب يعبدونها لذاتها، ولم تكن عندهم مجرد قطعة من حجر.
ويوجد في الهند حوالي أربعة آلاف من الآلهة، وهذا لا مثيل له في العالم، ومع ذلك يُنظر لهذه الكثرة الكاثرة من الآلهة على أنها صور وتجسيدات للخالق سبحانه وتعالى، وهذا ما ذكره التقرير المرفوع إلى الحكومة البريطانية في الهند، وفيه أن النتيجة العامة التي انتهت إليها اللجنة من البحث هي أن كثرة الهنود الغالبة تعتقد عقيدة راسخة في كائن واحد أعلى.. المصدر: قصة الحضارة للملحد ول ديورانت مجلد 3 ص 209.
ويرى ول ديورانت أن هذه الألوف من الآلهة هي نفس ما تفعله الكنائس المسيحية من تقديس لآلاف القديسين، فلا يتطرق إلى ذهن الهندي ولو للحظة واحدة أن هذه الآلهة التي لا حصر لها لها السيادة العليا.. المصدر السابق.
ولذا فقد كان النزاع بين الرسل وأقوامهم في توحيد الألوهية "إفراد الله بالعبادة" لا في توحيد الربوبية "إفراد الله بالخلق"، ولهذا لم يَرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن ظن في عباد الأصنام أنهم كانوا يعتقدون أنها تخلق العالم أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات أو تخلق الحيوان أو غير ذلك فهو جاهل بهم، بل كان قصد عباد الأوثان لأوثانهم من جنس قصد المشركين بالقبور للقبور المعظمة عندهم" مجموع الفتاوى 1-359.
فتوحيـد الله هو فطرة البشـر جميعـا، والجميع يؤمنون بالخالق. والغريزة الدينية التوحيدية توجد في كل العصور والأصقـاع، وهي إحدى النزعات الخالدة للإنسانية.
يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد".
طالما أنه منذ البدء والتوحيد هو الأصل فلماذا يخبرنا علم الآثار- الأركيولوجي- والحفريات بعكس ذلك؟
إجابة هذا السؤال بسيطة للغاية، وهي أن الموحدين لا يصنعون تماثيل ولا أيقـونـات.. فالذي يقرأ التاريخ عبر التماثيل والأيقـونات سيقرأ تاريخ الوثنيين الذين جعلوا مع الخالق آلهة صغيرة.. وهذا مصدر ضلال الملحدين في البحث!
ولذا يرى لانج وباسكال وشميث وبروس وكوبرز وغيرهم، وهؤلاء من كبار الباحثين في أصول الأديان، أن التوحيد كان أولا، وأن كل معبودات الوثنيين جاءت كمرحلة تالية لعبادات توحيدية يُعبد فيها الله الواحد الأحد، فالتوحيد كان أولا ثم أتت الوثنية والتعدد في مرحلة لاحقة. (Andrew Lang: The Making of Religion)
لو اختبرت الملحد فسوف تجده غالبا لا يدري أن الفِرق الإلحادية لا حصر لها، وكل فرقة إلحادية تلعن أُختـها؛ فتجد العشرات من الملحدين العرب ينقسمون إلى:
والإلحـاد الشيوعي ينقسم بدوره إلى
بل إن الإلحاد الشيوعي بالذات ينقسم إلى آلاف الفِرق، وكما يقول الشيوعي الشهير مكسيم لوروا في كتابه "إرادة الاشتراكية الفرنسية": "لاشك في أن هناك اشتراكيات متعددة، فاشتراكية بابون، تختلف أكبر الاختلاف عن اشتراكية برودون، واشتراكيتا سان سيمون وبرودون، تتميزان عن اشتراكية بلانكي، وهذه كلها لا تتمشى مع أفكار لويس بلان، وكابيه وفورييه، وبيكور، وإنك لا تجد داخل كل فرقة أو شعبة إلا خصومات عنيفة، تحفل بالأسى والمرارة ".
هذا في فرنسـا وحدها فما بالنا بتفريعات تروتسكي وستالين وماو وبول بوت وكوريا الشمالية وآلاف التفريعـات والانشقاقات الأُخرى.
وهكذا كل فرقة من الفرق الإلحـادية تنقسم على نفسهـا وتتشظى وتتفتت..
أما بالنسبة للعلمانية الإلحادية فهناك:
وكلها علمانيات متنازعة ومتضاربة وتحارب بعضها بعضا.
وظهرت في الغرب مصطلحات مثل:
وعلمانية فرنسا تختلف تمام الاختلاف عن علمانية هولندا وكلاهما لا تمتان بصلة لعلمانية أمريكا وعلمانية الصين وكأنها دين آخر تماما، وهكذا..
وجنة الملحد الشيوعي لن يدخلها الملحد الليبرالي.. بل إن الإلحاد الشيوعي يرى ضرورة تصفية الإلحاد الرأسمالي جسديا كما في وثيقة الكولاك لزعيم البلاشفة لينين.
وداخل الإلحاد الشيوعي تزعم كل طائفة أنها الحق المُطلق، وستالين يقوم بتصفية تروتسكي ثالث أكبر مُنظر للشيوعية في العالم بدافع الحفاظ على الشيوعية الإلحادية اللينينية. وكوريا الملحدة الشيوعية الشمالية ترى أن كوريا الرأسمالية الجنوبية خطر على العالم يجب سحقه.
وكل الصراعات الأوربية في القرن الأخير، التي راح ضحيتها ربع سكان أوربا، كانت علمانية إلحادية 100%، ولم يدخل فيها حزب ديني واحد.
وقد ظهرت مدرسة داروينية إجتماعية Social Darwinism قوامها أن الأقوى يسيطر ثقافيا وفكريا وبيولوجيا والضعيف ينسحب بهدوء إلى أن يموت! وهي مدرسة القتل البطيء للآخر طبقا للتنظير الدارويني ورؤيته للجنس البشري.
وظهر هربرت سبنسر مُنظر الإلحاد الدارويني في القرن التاسع عشر، الذي أكد على ضرورة القتل البطيء للجنس البشري، فهو يقول حرفيا: "فإن فكرة وسائل الوقاية الصحية وتدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها وتلقيحهم تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي. إن مساندة الضعفاء أو محاولة حماية المرضى والحرص على بقائهم يأتي كتحد صارخ لقانون الطبيعة." (Social Status, p.414-415)
وهكذا تحول الإلحاد إلى آلة قتل باردة ضد الآخر حتى ولو كان مُلحدا طالما أنه لم ينتمِ لنفس الطائفة والعنصر والجنس، وكانت النتيجة مقتل ربع سكان أوربا في مجازر حربين عالميتين لا تمُتـان بصلة لأي دين من الأديان.
تعدد الأديان، د. هشام عزمي:
الإحصائيـات الواردة في المقال صادرة عن مؤسسة بيو الأمريكية لأبحاث الأديان والمُعتقدات.
إعداد عبدالله (بتصرف)