هذا السؤال بشقيه من الأسئلة التي تثير الشبهة عند البعض نظرا لبنية السؤال نفسه.
أما مسألة غنى الله عن خلقه فهي من المسائل الثابتة نصا وعقلا، فالله سبحانه يقول في سورة الذاريات: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)"، وقال في الآية 6 من سورة العنكبوت: "... إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ". وهذا المعنى متكرر في نصوص القرآن والسنة. وأما عقلا فإن من الثابت عقلا أن خالق الكمال يتصف بصفات الكمال المطلق، ومن صفات الكمال المطلق أن تنتفي حاجته لسواه، إذ أن افتقاره لغيره صفة نقص يتنزه عنها سبحانه.
فيبقى السؤال (لماذا خلقنا الله؟).. وهذا السؤال له شقين: شق يخصنا نحن، لكي نعرف ما هي وظيفتنا ودورنا الذي خلقنا الله لنقوم به في هذه الحياة، وشق يتعلق بالخالق نفسه.
وما يخصنا نحن فجوابه واضح، وهو أن الله خلقنا وكلفنا بعبادته، ولكنه جعلنا في دار اختبار ومنحنا الإرادة الحرة لنقرر نحن: هل نسعى إلى الفوز أم إلى الخسارة. والأمر واضح في نصوص كثيرة منها ما تقدم.
وأما ما يخص الخالق سبحانه في إرادة خلق البشر وجعلهم في هذا النسق من الاختبار والموت والبعث والحياة الأخروية، وهم جزء بسيط جدا من الخلق، فهو شأنه سبحانه وليس شأن غيره من الملائكة أو البشر أو غيرهم، وقد سأل الملائكة ربهم هذا السؤال عندما خلق آدم فأجابهم الله جوابا نهائيا واضحا، حيث يقول سبحانه في سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)".
فالجواب (إني أعلم ما لا تعلمون) يوضح أمورا عدة: أن الحكمة من خلق الإنسان تخصه سبحانه، وأن الأمر برمته من شأن الله ولا علاقة للمخلوقات به، فهو "فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" وهو "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ"، وأن سبب خلق البشر علم من علم الله لا يعلمه الملائكة، وما دام الأمر يتعلق بعلم الله المطلق فهو أعلم بالحكمة منه، ولا يَعلمها أحد من خلقه إلا بإذنه.
فإذا علمنا أن للأمر جانبين فيما يتعلق بخلق الإنسان: أحدهما يخص الإنسان، وهو موضح في القرآن بنصوص صريحة، وهو تحقيق العبادة لله من أجل الفوز بالجنة، والجانب الآخر يخص الخالق سبحانه، وهو الحكمة من الخلق، فيجب أن نعلم أن الحكمة من شأنه وحده وليست من شأن أحد من خلقه، وعلمنا محدود قاصر بينما علمه كامل مطلق، فلا يصح أن نعتبر معرفة حكمة الله من الخلق حقا من حقوقنا التي نطالب بها، وبالتالي لا يكون حجبها ظلم لنا..
هذا السؤال من أعجب الأسئلة! وهو يدل على أن الشبهة إذا استحكمت في العقول طمست التفكير المنطقي فيها!
المسألة هنا مسألة وجود وعدم.. كيف يستشيرك ربك قبل أن توجد؟
لاحظ الخلل في السؤال.. إذا استشارك ربك عن خلقك فأنت موجود، فلا استشارة لأحد إذا لم يكن موجودا.. وإذا استشارك فأنت الآن مخلوق، فكيف يستشيرك إن كنت تريده أن يخلقك أم لا؟
الطريف في السؤال هو كيف يطمس الله على عقل الملحد الذي يطرحه بهذا الشكل! هذا السؤال أعتبره من دلائل الإعجاز حيث قال في سورة الأعراف: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)".
عندما ينعم عليك الله بفرصة الحياة الأبدية في نعيم لا نهائي في جنة فيها ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.. ويمنحك الإرادة الحرة لتقرر بنفسك فتختارها أو تختار العذاب، فأي ظلم في هذا؟
وعندما يخبرك الله بما ينتظرك ويعطيك خارطة الطريق بوضوح تام لكي تصل إلى هذا النعيم ولكي تتجنب العذاب، فأي ظلم في هذا؟
وعندما يرغّبك بشتى الوسائل والطرق لسلوك طريق الجنة ويحذرك مرارا وتكرارا من سلوك طريق النار، فأي ظلم في هذا؟
وعندما يقص عليك الله قصص أصحاب الجنة وكيف فازوا بها وقصص أصحاب النار وكيف باؤوا بعذابها لكي تعتبر وتتعلم.. بل إنه يروي لك حوارات أهل الجنة وحوارات أهل النار التي ستدور بينهم لتفهم الدرس جيدا.. فأي ظلم في هذا؟
وعندما يعطيك الله على الحسنة عشر حسنات، وعلى السيئة سيئة واحدة، ويخبرك بذلك لكي تبادر إلى الحسنات، فأي ظلم في هذا؟
وعندما يخبرك الله أنك إذا أتبعت السيئة الحسنة فإنها تمحوها، فأنت تكسب عشر حسنات وتمحى عنك السيئة.. فأي ظلم في هذا؟
وعندما يخبرك أن التوبة تجبّ ما قبلها فيكون التائب من الذنب كمن لا ذنب له.. فأي ظلم في هذا؟
وعندما يجعل الله الدال على الخير كفاعله.. فأي ظلم في هذا؟
وعندما يجعل الله الحصول على الحسنات يسيرا جدا، فيمكنك بالاستغفار والتسبيح والأذكار أن تحصل على حسنات عظيمة وتتخلص من ذنوبك بلا مشقة.. فأي ظلم في هذا؟
وعندما يجعل لك على كل حرف من القرآن عشر حسنات.. فأي ظلم في هذا؟
وعندما يعطيك الله الثواب لمجرد النية في عمل الخير ولو لم تتمكن منه، ولا يحاسبك على نية الشر إذا لم تفعله.. فأي ظلم في هذا؟
وعندما يعدك الله بأنك إذا بادرت إلى الخير فإنه سيزيد من هدايتك ويوفقك وييسر لك سبل الخير.. فأي ظلم في هذا؟
الخلاصة هي أن الله لم يعاملنا بعدله فقط، بل إنه عاملنا برحمته وكرمه وإحسانه.