من أشهر الادعاءات التي يرددها المنصرون والملحدون قولهم إن الإسلام ينفي كروية الأرض ويدعي أنها مسطحة ومستوية.
ويستشهدون في شبهتهم بالآية 20 من سورة الغاشية: "وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ"، فيقولون: هاهو القرآن يقول إن الأرض مسطحة..
المشكلة القديمة مع الشبهات التي تثار حول القرآن هي انتزاع النص من سياقه والاستشهاد به، ولو أنك أرجعت كل نص يستشهدون به إلى سياقه لسقطت شبهاتهم.
ما هو سياق هذه الآية؟ يقول الله تعالى:
أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
تخيل أنك واقف تتأمل في خلق الله، فتنظر إلى الإبل ثم ترفع رأسك إلى السماء ثم تنظر إلى الجبال، ثم تنظر إلى الأرض أمامك.. هل ترى كوكبا كرويا أم ترى أرضا مستوية؟
فالآية تتحدث عن الإعجاز فيما ينظرون إليه.. هل نظرت في حياتك إلى الأرض فرأيتها كروية؟ ربما رأيتها كذلك لو كنت رائد فضاء!
إن كل ما نراه من كروية الأرض هي صور أخذت من خارج الأرض.. لكن القرآن هنا يدعونا للتأمل بالمنظر الذي نراه أمام أعيننا، ونحن بالفعل نرى أرضا منبسطة على مد البصر.
أما حين يتحدث القرآن في سياقات أخرى فإننا نلاحظ أن الصورة المرسومة للأرض كروية كما هي الحال مع الأجرام السماوية، فالقرآن يقول في سورة الزمر:
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ
والإشارة للتكوير واضحة هنا، فلو لم تكن الأرض كروية لما تكور عليها الليل والنهار. والإشارة أيضا واضحة في قوله سبحانه "كل يجري لأجل مسمى" وفي آية أخرى "وكل في فلك يسبحون"، فكيف وأين تجري الأرض لو كانت سطحا مستويا وليست كروية؟
ومن الإشارات القرآنية الواضحة على كروية الأرض إشارة القرآن إلى تعدد المشارق والمغارب في قوله تعالى: "رب المشارق والمغارب"، فلا يحصل هذا التعدد إلا بكروية الأرض، إذ تشرق وتغرب في كل وقت على أماكن مختلفة بصفة مستمرة ومتكررة.
ومصدر الإشكال الذي يستغله من يثير هذه الشبهة هو المعاني المختلفة للفظة (الأرض)، فهي تأتي بمعنى قطعة من الأرض، ونفس اللفظة يمكن أن يقصد بها الكوكب نفسه. لاحظ الفرق في معنى اللفظة بين الجملتين التاليتين:
فهناك فرق كبير في مدلول اللفظة في الجملتين.
وهذا اللبس غير موجود في لغات أخرى، ففي الإنجليزية هناك لفظة ground ولفظة land ولفظة earth، ومن يعرف تلك اللغة يدرك أنه لا يمكن استخدام لفظة مكان الأخرى، مع أنها كلها تعني في العربية (أرض).
والخلاصة، أن القرآن الكريم يستخدم الأرض بمعنى (مساحة من سطح الأرض) إذا كان الأمر مرتبطا بالبشر أو عيشهم أو إدراكهم، وبمعنى (كوكب الأرض) إذا كان السياق عن فلكيا.
والعلماء المسلمون منذ القدم أدركوا هذا الفرق في المدلولات المتنوعة للفظة (الأرض)، فهم يدركون أن الأرض كروية، ولم يمنعهم من ذلك بعض الآيات مثل: "وإلى الأرض كيف سطحت"، رغم صراحتها بأن الأرض الواردة في الآية مسطحة، لكن صفاء أذهانهم وفهمهم للفرق في استخدام اللفظة وسياق الآية جعلهم يدركون أن الكلام عن الكوكب يختلف عن الكلام عن المساحة المنظورة من سطح الأرض. وهؤلاء علماء كبار مثل ابن حزم وابن تيمية والرازي وغيرهم، كما سيأتي.
لننظر ماذا كان يقول علماء المسلمين قبل حياة برونو وأثناءها وبعدها..
في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل): "قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك.. وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحدًا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يُحفظ لأحد منهم في دفعه كلمةٌ.. بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها."
لاحظ أن ابن حزم لم يكفّر من أنكر التكوير وإنما سماهم بالعامة.
قال رحمه الله في (مجموع الفتاوى) (25/195): "قال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد : لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة ... وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة."
وقال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى ) (5/150): "اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل وهي في الماء المحيط بأكثرها؛ إذ اليابس السدس وزيادة بقليل، والماء -أيضاً- مقبب من كل جانب الأرض، والماء الذي فوقها بينه وبين السماء كما بيننا وبينها مما يلي رؤوسنا، وليس تحت وجه الأرض إلا وسطها ونهاية التحت المركز؛ فلا يكون لنا جهة بينة إلا جهتان: العلو والسفل، وإنما تختلف الجهات باختلاف الإنسان فعلو الأرض وجهها من كل جانب، وأسفلها ما تحت وجهها -ونهاية المركز- هو الذي يسمى محط الأثقال، فمن وجه الأرض والماء من كل وجهة إلى المركز يكون هبوطاً ومنه إلى وجهها صعوداً، وإذا كانت سماء الدنيا فوق الأرض محيطة بها فالثانية كروية وكذا الباقي."
قال في جواب له على أحد الأسئلة في برنامج "نور على الدرب": الأرض كروية عند أهل العلم قد حكى ابن حزم وجماعة آخرون إجماع أهل العلم على أنها كروية، يعني: أنها منضم بعضها إلى بعض مدرمحة كالكرة، لكن الله بسط أعلاها لنا وجعل فيها الجبال الرواسي وجعل فيها الحيوان والبحار رحمة بنا ولهذا قال: وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:20] فهي مسطوحة الظاهر لنا ليعيش عليها الناس ويطمئن عليها الناس، فكونها كروية لا يمنع تسطيح ظاهرها لأن الشيء الكبير العظيم إذا سطح صار له ظهر واسع. المصدر
لما سئل عن البعض يقولون إن آيات القرآن تدل على أن الأرض مسطحة بينما العلماء يقولون إنها كروية، فأجاب: "هذه هي المشكلة... المشكلة في الفهم. أولا القرآن أثبت أن الأرض كروية." ثم استمر في الاستشهاد من القرآن على كروية الأرض. المصدر
لم يكن القول بكروية الأرض من اكتشافات علماء الفلك الغربيين، وإنما سبقهم في ذلك العلماء المسلمين.
يقول ابن خرداذبة في كتابه (المسالك والممالك): "إن الأرض مُدَوَّرَةٌ كدوران الكرة".
كتب ابن رُستة في كتابه (الأعلاق النفيسة): "إن الله جل وعز وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة أجوف دوَّارًا.. والأرض مستديرة أيضًا ومصمتة في جوف الفلك".
كتب المسعودي في كتابه (التنبيه والإشراف) : "جعل الله عز وجل الفلك الأعلى وهو فلك الاستواء وما يشمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر...."
ذكر الشريف الإدريسي في كتابه (نزهة المشتاق) ما نصه: "وإن الأرض مدورة كتدوير الكرة، والماء لاصق بها، وراكد عليها ركودًا طبيعيًّا لا يفارقها ... والنسيم يحيط بها من جميع جهاتها (يقصد الغلاف الجوي)."
يقول القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات): "الأرض كرة.. والدليل على ذلك أن خسوف القمر إذا كان يُرى من بلدان مختلفة فإنه لا يُرى فيها كلها في وقت واحد بل في أوقات متعاقبة لأن طلوع القمر وغروبه يكونان في أوقات مختلفة في الأماكن المختلفة." ثم يفنِّد القزويني آراء علماء القرون الوسطى في أوروبا ورجال الكنيسة الذين يقولون إن الأرض لو كانت كرة لسقط الناس في الجانب الآخر منها، أو كانت رءوسهم مقلوبة.. فيقول: "إن الإنسان في أي موضع يقف على سطح الأرض فرأسه أبدًا مما يلي السماء، ورجله أبدًا مما يلي الأرض، وهو يرى من السماء نصفها.. وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من جانب السماء الذي أمامه بقدر ما كان قد خفي عنه من الجانب الآخر.."
يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان، الجزء 2، الصفحة 379: "خط الاستواء من المشرق إلى المغرب وهو أَطولُ خط في كرة الأَرض".
المشكلة لدى الكثير من الملحدين هي أنهم لا يفرقون بين نص القرآن الذي ظل محفوظا ومتواترا بين الناس كما أنزل أول مرة دون تغيير، وبين نصوص النصرانية المحرفة التي أصبحت ملكا للكنيسة تتصرف فيها وتبدل كما تشاء. وبالتالي تلك الانحرافات التي حصلت لدى النصارى في اضطهاد القائلين بكروية الأرض.
الكنيسة سجنت وعذبت الكثير من العلماء الذين قالوا بكروية الأرض مثل جاليليو وكوبرنيكوس، بل إن من أشهر فضائع الكنيسة ما ارتكبته في حق العالم الإيطالي جوردانوا برونو (1548م – 1600م) (Giordano Bruno) الذي آمن بنظرية كوبرنيكوس حول كروية الأرض ودورانها حول الشمس، فلاحقه رجال الدين الكنسيون وسجنوه ثمان سنوات ثم قطعوا لسانه وقتلوه حرقا بالنار.. هذا ما كانت تفعله الكنيسة وما ظل يعشش في عقول الجهلة من النصارى والملحدين ليجعلوه مقياسا يقاس عليه الإسلام في موقفه من كروية الأرض.