عندما نريد أن نتعرف على مفهوم الهداية والإضلال في القرآن الكريم فيجب أن نستعرض الآيات والسياقات التي وردت فيها، وعندما نستعرضها فإننا سنخرج بفهم واضح خال من الاضطراب. فالهداية في القرآن على أربعة أنواع كما ذكر ابن القيم رحمه الله، وسنركز هنا على النوع الثالث.
وهذه الهداية العامة وهبها الله لكل نفس لتهدي إلى ما يصلح شأنها ومعاشها، وفطرها على جلب النافع ودفع الضار. قال تعالى: "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى" (الأعلى 2-3)، وقال تعالى: "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه 50). وبهذه الهداية اهتدت الأزواج من الكائنات إلى التزاوج والتكاثر ورعاية الصغار، واهتدى الصغار إلى التقام الثدي والتماس الغذاء. ومظاهر هذه الهداية كثيرة جدا.
وهذه الهداية هي وظيفة الرسل والكتب المنزلة، وهي إيضاح سبيل الفلاح وسبيل الهلاك للناس. قال الله تعالى: "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" (البلد 10)، وهي الهداية المقصودة في قوله تعالى: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (فصلت 17)، فالهداية هنا دلالة إرشاد وليست دلالة توفيق (كما سنرى)، إذ لو كانت دلالة توفيق لما استحبوا العمى على الهدى.
والله تعالى لم يمنع هذه الهداية عن أحد من خلقه، بل إنه منع العذاب على من لم تتحقق فيه فقال سبحانه: "...وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" (الإسراء 15)
موضع الإشكال عادة عند طرح الشبهة هو عدم فهم هذا النوع من الهداية. والمقصود بها هو زيادة الهدى والبصيرة إلى الحق، والأمثلة على ذلك عديدة، منها قوله تعالى: "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى..." (مريم 76)، وقوله تعالى: "...إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" (الكهف 13)، فهذا النوع من الهدى له شرط، وهو مبادرة الإنسان إلى الهدى، قال تعالى: "يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ..." (المائدة 15)، وقال: "... وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ" (الرعد 27).
ومثل ذلك الإضلال، فالله لا يضل من اختار الهدى أو سعى إلى الحق، وإنما يضل من اختار الضلال والفسوق والعصيان، قال الله تعالى: "...وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ" (البقرة 26)، وقال: "...وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ..." (إبراهيم 27)، وقال: "...كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ" (غافر 34)، وقال: "...كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ" (غافر 74)، وقال تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ" (الأعراف 146).
فالهداية والإضلال هنا ليس فيهما ظلم لأحد، تعالى الله عن الظلم علوا كبيرا، وإنما الهداية نوع من الثواب على اختيار الهدى، والإضلال عقاب لمن اختار الضلال أصلا.
وأما قوله تعالى: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (التكوير 29) ففيه ملمح مهم، وهو أن المشيئة الحرة في اختيار الضلال والهدى ليست إلا هبة من الله، فالله سبحانه وهب العبد هذه المشيئة ليختار اختيارا حرا بين الهدى والضلال. فلا يظن المرء أن هذه المشيئة الحرة هي من قبل نفسه وجوديا، وإنما هي مشيئة حرة ولكنها هبة من الله، أي أن العبد إذا شاء بمشيئته الحرة فإن مشيئته الحرة أوجدتها مشيئة الله سبحانه، فلا يملك أن يشاء العبد بلا مشيئة الله له أن يشاء.
وسوف نفهم الأمر بوضوح أكثر عند المقارنة بين البشر والملائكة، فالملائكة ليست لهم مشيئة اختيار الضلال أو العصيان، ولا يستطيع أحد من الملائكة أن يعصي الله، لأن الله لم يهبه هذه المشيئة الحرة في اختيار الضلال والعصيان كما وهبها للبشر.
فالمسلم الذي اختار الهداية في الحياة الدنيا، فزاده الله هدى، سيهديه الله إلى الجنة يوم القيامة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (يونس 9). وأما الظلمة فتكون هدايتهم إلى الجحيم: "احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ" (الصافات 22-23)
هكذا تكون النصوص المتعلقة بالهداية والإضلال متكاملة وواضحة المعنى. فالسياقات القرآنية ومراجعة ورود الألفاظ في الآيات يساعد كثيرا على فهم المعنى القرآني واستيعابه.